دراسة لعبدالله الفكي البشيرعن المزاج الديني في السودان من زاوية ادعاء النبوة
صفحة 1 من اصل 1
دراسة لعبدالله الفكي البشيرعن المزاج الديني في السودان من زاوية ادعاء النبوة
دراسة لعبدالله الفكي البشيرعن المزاج الديني في السودان من زاوية ادعاء النبوة
April 2, 2013
(حريات)
قراءة في أحوال المزاج الديني في السودان: ادعاء النبوة
عبدالله الفكي البشير
مدخل
تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ظاهرة ظلت ملازمة لتاريخ السودان، وهي ظاهرة ادعاء النبوة. برغم أن بعض المؤرخين والكتاب يرى أن ادعاء النبوة في السودان يعود إلى مفاهيم نزول النبي عيسى، وارتباط الأمر بمعارضة الاستعمار الإنجليزي، ومع صواب هذا الرأي في بعض جوانبه، إلا أن استمرار ظاهرة ادعاء النبوة، بعد خروج الاستعمار، وابتعادنا عن وقت شيوع مفاهيم النبي عيسى، وحتى تاريخ اليوم، يجعل للأمر أبعاداً وظروفاً متجددة وأسباباًأعمق. ولهذا فهي ظاهرة تحتاج لمزيد من الدراسة والتنقيب والتفحص. لقد ظللت أتابع وأحاول رصد ادعاء النبوة في السودان في المصادر والمراجع منذ مملكة الفونج (1504م-1821م) وحتى تاريخ اليوم. فالإحصائيات عندي قاربت الأربعين نبياً، من الأنبياء الذين اطلعت على التوثيق لهم في المصادر والمراجع. وبلا شك هناك من فلت من التوثيق عندي. لعل هذا العدد يحمل مؤشرات يمكن أن تهدي لما تنطوي عليه المكونات، كما أنه يحمل الكثير من الدلالات والمضامين. تؤكد الدراسة أن الظاهرة على مستوى العالم، هي ظاهرة قديمة، وأن كثيراً من دول العالم شهدت أناساًادعوا النبوة، بيد أن بلوغ العدد في السودان قارب الثلاثين نبياً، ربما، مع الاحتراز ، كان السودان من الدول الأعلى عالمياً من حيث عدد الذين ادعوا النبوة، وربما، مع الاحتراز أيضاً، فاق هذا العدد، عدد الذين ادعوا النبوة في دول العالم الإسلامي. من المهم الإشارة إلى أن هذا الدراسة تُعنى بمن أعلن عن نفسه بأنه نبي، ولا تعطي الدراسة اعتباراً لمن شاع عنه أنه نبي. ومن المهم أيضاً، الإشارة إلى أن هذه الدراسة لا تحاجج في مدى صحة دعوة هؤلاء الأنبياء أو عدم صحة دعوتهم، كما أنها لا تجادل، هؤلاء الأنبياء أو اتباعهم في دعواتهم؛ وإنما تنشغل الدراسة بتقديم إضاءات عن الظاهرة واستمرارها، وتقدم أفكاراً أولية عنها، وتلفت الانتباه إلى ضرورة دراستها بمداخل علمية مختلفة: نفسية واجتماعية وسياسية ودينية… إلخ. لقد استأنست هذه الورقة بأفكار كثيرة، كما استشارت العديد من المصادر والكتب والدوريات… إلخ، وكل ذلك مثبت في قائمة المصادر والمراجع. تطرح الورقة العديد من الأسئلة، وتحاول الإجابة عليها، وتنتظر كذلك تلاقح الرؤى وتزاوج الأفكار مع الآخرين. ومن الأسئلة: هل هناك علاقة بين ادعاء النبوة وتدين أهل السودان؟ هل يعبر ادعاء النبوة عن أشواق للحلول الدينية؟ وما هي العبرة من كثرة مدعي النبوة؟ هل في هذا أي مؤشر لطاقة روحية، أو مؤشر لأمر لا نستطيع إدراكه إلا مستقبلاً؟ هل لادعاء النبوة جذور أبعد من دخول الإسلام في السودان؟ لماذا استمر ظهور الأنبياء في السودان؟ هل هناك صلة بين ادعاء النبوة في السودان والشعور بالذات أو فقدانها أو ضياعها أو الوعي بها؟ هل هناك شعور بخصوصية العلاقة مع الدين الإسلامي؟ هل للأمر صلة بقضايا الهوية؟ هل ادعاء النبوة يعبر عن دلالات لم نستطع الكشف عنها؟ وهل يعبر ادعاء النبوة عن أن التطرف الديني كامن في عمق بسيط تحت السطح، كما عبر أحد البريطانيين عن تخوفه من الحركات الدينية وإمكانية انفجارها في السودان؟ وهل وقف الأمر عند حد ادعاء النبوة، أمارتفع السقف إلى ادعاء الألوهية؟ وربما تكون هناك أسئلة أخرى. تحاول الورقة، بقدر ما تيسر لها، تقديم إشارات للدين والتدين في فترة مملكة كرمة (2500ق.م.- 1500ق.م.)، ومملكة كوش التي عاشت نحو عشرة قرون (750ق.م.- 350م)، بفرعيها الشمالي نبتة (750ق.م.- 590ق.م.)، والجنوبي مروي (590ق.م.- 350م). ولكي ما تنهض هذه الورقة بموضوعها وتحقق أغراضها فقد تهيكلت في المحاور التالية:
مدخل
الاطار الجغرافي للدراسة
آخر توثيقاتي للذين ادعواالنبوة
أحوال المزاج الديني في السودان: مشروع في مرحلة التخلق
الحكماء وإرث الحق الإلهي
تكييف المزاج الديني: من المدينة المنورة إلى القاهرة
البريطانيون وادعاء النبوة ومكانة الدين في نفوس أهل البلاد
الخريطة الزمانية والمكانية للأنبياء الجدد في السودان
جون فول و”مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”
للأمر جذور أبعد
الأنبياء والعرافون والطاقة الروحية وما وراء العقل
خاتمة
السودان: الحالة الثقافية الفريدة والشىء النادر
قائمة المصادر والمراجع
الاطار الجغرافي للدراسة
بالرغم من أن جمهورية السودان القائمة اليوم تمثل الاطار الجغرافي لهذه الدراسة، إلا أن موضوع ادعاء النبوة له تمددات جغرافية وزمانية، عابرة لأقاليم السودان الحالي، ولهذا كان لابد من الإشارة إلى أن السودانكانت له تمددات جغرافية، كما عُرف قبل رسم الكينونة السياسية الحالية، بأسماء مختلفة، فقد عُرف الجزء الشمالي بـ: “واوات” و”يام” و”كوش” الذي اشتهر عند المصريين والآشوريين والعبرانيين والأكسوميين، و”تانسي” و”تايسي” و”أثيوبيا” عند اليونان، و”نوباديا” عند الرومان، وهو نفس اسم “بلاد النوبة” الذي أطلقه الجغرافيون العرب على ممالك النوبة المسيحية الثلاثة. وعرفت نفس المنطقة بأسماء محلية أخرى مثل: نبتة ومروي، وعرفت بعض الأجزاء الواقعة إلى الجنوب بالفونج والفور وتقلي (يوسف: 2008م. ص 202-204). اتخذ السودان اسمه من تسمية أطلقها المؤرخون والجغرافيون العرب، وعرفت ببلاد السودان. ففي تعاطيهم مع إفريقيا، القارة اليوم، وشعوبها، أطلق الرحالة والجغرافيون تعبير بلاد السودان على البلاد الواقعة جنوب الصحراء الكبرى من القارة الإفريقية (قاسم: 2006م. ص 17). وعن معنى كلمة السودان ودلالاتها يقول الخير محمد حسين: اعتمدمعظم الكُتاب السودانيون على المصادر العربية في تعريفهم معنى السودان، فقد كتب حسن الفاتح قريب الله بمجلة الثقافةالسودانية، العدد (16)، ديسمبر 1980م، تحت عنوان: “السودان بينالوصفية والإسمية”، قائلاً: لون شعب هذا الوادي واختلاف سحنته عن سواه،ومقابلته بشرته، هو الذي أكسبه الوصف بالسودان. أما عبد الله الطيب فقد اعتمد على رسالة الجاحظ: “فخر السودان على البيضان”، وقال إن السودان تعني جمع أسود. ويضيف الخير قائلاً: وإذاما رجعنا إلى المعنى الإفريقي في اللغة النوبية، نجد أن أصل الكلمة: “سَوْدان”Sawdan تعني بالنوبية: “المخلوط”، وهو ما ليس بالأبيض الباين ولاالأسود الباين، أي: وسط بين السواد الشديد والبياض الشديد.وعزى عدم شيوع المعنى كما جاء في اللغة النوبية إلى أن اللغة النوبية لم تجد الاهتمام الكافي، وعدَّد بعض اسباب عدم الاهتمام(الخير: مجلة احترام على صفحات موقع سودان للجميع، استرجاع (Retrieved)بتاريخ 2011م).كما استخدم الرحالة العرب المسلمين أيضاً، اسم بلاد الحبشة وبلاد البجة وبلاد النوبة وبلاد الزنج وبلاد التبر، وكلها تسميات كانت متزامنة مع تسمية بلاد السودان، التي سادت لاحقاً حتى فترة الاستعمار الأوروبيفي العصر الحديث. كان الإغريق وقدماء المصريين قد سبقوا العرب في تسمية هذه المنطقة، وفقاً للون بشرتهم. فقد استعمل الاغريق كلمة إثيوبي (الأسود أو محرق الوجه) لسكان إثيوبيا القديمة وسكان مدغشقر وسكان جنوب جزيرة العرب أيضاً (عثمان: 2005م. ص 88).”وعندما شاع استخدام اسم السودان في المكاتبات الرسمية منذ حوالي عام 1870م، شمل كل الأقاليم الواقعة شمال البحيرات العظمى وحتى القرن الأفريقي والسواحل الصومالية” (عبدالغفار: 1992م. ص 15). وفي فترة الاستعمار الأوروبي كان هناك السودان الفرنسي، والسودان الإنجليزي المصري. عندما استقلت شعوب إفريقيا من الاستعمار الأوروبي، “سقطت كلمة بلاد. وبعد الاستقلال.. أبقى سودان وادي النيل اسم السودان لجمهوريتهم بعد الاستقلال” (عثمان: 1992م. ص 120).
آخر توثيقاتي للذين ادعوا النبوة
كان الرجل الذي ادعى أنه نبي في عام 2011م، هو آخر توثيقاتي للذين ادعو النبوة في السودان. بعد أن تراجع نبينهاية عام 2012م من دعوته التي تناقلت أخبارها المنابر الحوارية على شبكة الإنترنت. جاء خبر نبي عام 2011م في أغسطس من العام 2011م في صدر العدد رقم: 1359من صحيفة الأحداث التي تبخرت ناحية السماء، مثل غيرها من الأشياء الجميلة. فحال صحيفة الأحداث مثل حال أشياء لا حصر لها في السودان، بعضها تبخر وبعضها الآخر في طريقة للتبخر، وهناك أشياء بدلاً من أن تتعتق، فإنها تخسَّرت بدورها وفقدت قيمتها. لقد تبخرت، كما ظللت أردد، وتلاشت كل المؤسسات الحاملة لرمزية الحداثة، وذات العائد التنموي، السكك الحديد، النقل النهري، ومشروع الجزيرة، والخطوط الجوية السودانية، وجامعة الخرطوم، …إلخ كلها تلاشت وتبخرت. وفي هذا إشارات ذات دلالات كبيرة. لم يبقَ لنا في السودان، إلى جانب استمرار ادعاء النبوة، سوى الصراعات والثأرات السياسية والحزازات الثقافية، وقائمة طويلة من الأصدقاء الدوليين: أصدقاء للحكومة، وأصدقاء لكل حركة، وأصدقاء لكل حزب سياسي، وأصدقاء لكل منظمة مجتمع مدني… إلخ. إن هذه الصداقات، الكثيرة والمتداخلة، هي قطعاً لا تعاف النهش من جسم السودان المتهالك. لقد تبخرت الخيرات، وتسرب الخراب إلى الأراضي والفهوم، وضاقت المواعين وتوسعت المطامع الدولية وتجددت، وأصبحت قضايا السودان مطروحة في سوق الدبلوماسية الدولية، بألوان مختلفة وأشكال عديدة حتى أصبح يصعب على المراقب السوداني، أن يميز عن أي سودان تتحدث هذه الدبلوماسية الدولية؟. القضايا عديدة والأسباب يصعب حصرها، والبلد قديم وعريق وواسع. الكل مكلوم، والجراح متجددة.برغم ذلك فإنني من المتفائلين، والمتفائل دوماً يتشبث بالأمل حتى ولو تبدى له في مناخ مفردة أو في رائحة حروفها. لقد تعلقت بكلمة كثيراً ما سمعتها في الشارع، بيد أني لم أدرك ضخامتها وقوة معانيها إلا حينما نطق بها الروائي الطيب صالح (1929م-2009م) في تلك الأمسية بمدينة الدوحة قبل نحو عقد من الزمان. كنت يومها مدعواً لوليمة عشاء على شرف الطيب صالح بمنزل السفير أحمد دياب، في تلك الأمسية قال الطيب صالح بعد أن سمع سيلاً من الآراء وقصص ومفردات التشاؤم بشأن مستقبل السودان، قال: “لكن يا أخوانا برغم هذا، الحاجات بِتبَتِّق” انتهى. ونحن في انتظار أن تبَتِّق الأشياء في السودان!!!.
مشروع في مرحلة التخلق
تقع هذه الدراسة: “قراءة في أحوال المزاج الديني في السودان:ادعاء النبوة”، ضمن مشروع بحثي مستمر ومفتوح، وهو لايزال في مرحلة التخلق. يتصل المشروع بأحوال المزاج الديني وتشكُّلاتهوتقلباته في السودان. من المعروف أن السودان قبل مجيء المسيحية والإسلام، كان موطناً لكريم المعتقدات الإفريقية وهي أقدم الأديان فيه. وبعد دخول الإسلام انتشر التصوف الإسلامي انتشاراً واسعاً منذ قيام سلطنة الفونج (1504م-1821م)، الذي تبعه قيام مملكة تقلي (1530م-1821م)، وسلطنة الفور (1650م-1916م)، ومملكة المسبعات (1660م-1750م) (يوسف: 2008م. ص 148). وظلت الصوفية مكوناً جوهرياً في التكوين الوجداني والفكري للفرد وفي المجتمع والثقافة. تبع ذلك ظهور ظاهرة ادعاء النبوة واستمرارها. إن عدم توقف الأنبياء من الإعلان عن أنفسهم وعن دعواتهم حتى اليوم، يحمل الكثير من الدلالات والمضامين، ويكشف عن طبيعة العلاقة بالدين، كما ترتبت عليها الكثير من النتائج. ولهذا، فإن ظاهرة ادعاء النبوة، التي ربما فاق السودان فيها، من حيث عدد دعاة النبوة، كل الدول التي تدين بالإسلام في العالم، ظاهرة تحتاج لمزيد من الدراسة والتفحص.ولهذا فإن هذا المقال بمثابة مدخل لحوار ودعوة لدراسة ظاهرة ادعاء النبوة وتفحصها بمداخل بحثية مختلفة تاريخية ونفسية واجتماعية… إلخ. إن مسألة ادعاء النبوة، مسألة تدين، وهي بهذا ذات جذور أبعد من مملكة الفونج وقبل دخول الإسلام في السودان.
الحكماء وإرث الحق الإلهي
لقد مر المزاج الديني للسودانيين بتطورات وتشكُّلات وأحوال متنوعة. وغني عن القول أنها تطورات متداخلة في حقبها وفي تأثيراتها، كما أن التطورات فيها تغذي بعضها بعضا. فقد بدأ إنسان وادي النيل يتعرف على معالم الألوهية. في صورتها الساذجة في العصور الحجرية، مثله مثل سكان العالم القديم. هنا لابد من الإشارة لدراسة الأستاذ على أحمد إبراهيم، والتي نال بها درجة الماجستير عام 1999م بإشراف الدكتور خضر آدم عيسى، في قسم التاريخ بكلية التربية بجامعة الخرطوم، وكانت الرسالة بعنوان: مظاهر التوحيد في العقائد الدينية الوثنية في وادي النيل (مصر والسودان الشمالي). تناول الأستاذ علي، الأستاذ الجامعي الآن بجامعة النيل الأزرق بالدمازين، بروز مظاهر التوحيد في العقائد الدينية الوثنية في وادي النيل الأدني والأوسط، مصر والسودان الشمالي، وتتبع تطور مفهوم الألوهية مع تطور إنسان وادي النيل، منذ عصور ما قبل التاريخ حتى سقوط مملكة مروي. وقف الأستاذ علي عند اعتقاد إنسان وادي النيل في الطبيعة وعبادته لمظاهرها عبادة الأرواح وممارسته للعقائد الطوطمية والفتشية والطقوس السحرية. ومع التطور حيث معرفة الزراعة والكتابة والحكم المركزي برز مفهوم الألوهية المشخصة، ورمز لها ببعض الأشكال الحيوانية والإنسانية التي تشير إلى أصولها الطوطمية والفتشية. ويضيف الأستاذ علي في خلاصة بحثه قائلاً: “في هذه المرحلة بدأ الانتقال من آلهة القبيلة والآلهة المحلية لإله الدولة، دولة الاتحاد، حيث تلاشت أو اندمجت أو امتثلت آلهة الأقاليم المنهزمة لاله الإقليم المنتصر. ثم برز في عصر الدولة القديمة والوسطى، برز مقام إله الدولة، والإله الأكبر بصورة حاسمة. وقد تصارع على هذا المقام إله وادي النيل الكبرى (ست) و (أوزيريس) و (حورس) و (رع) و(بتاح) و (آمون). وفي عصر الإمبراطورية الحديثة احتل الإله آمون مقام الإله الأكبر دون منازع، وخرج من دائرة القومية إلى دائرة الشمولية عندما توسع نفوذه وشمل بلاد النوبة وسوريا وجزءاً من بلاد الرافدين، بعد فتوحات تحتمس الثالث. في هذه الفترة وصل إنسان وادي النيل إلى التوحيد البدائي (شبه الخالص) حيث كان يؤمن إنسان وادي النيل بوجود إله أعظم خلق الآلهة الأخرى كما خلق الناس والأحياء والأشياء. ومع مجىء امنحتب الثالث بلغت الإمبراطوية قمة مجدها، ولما جاء ابنه (أخناتون) جاء بالديانة الإخناتونية كثمرة لذلك الإزدهار وفتح مفهوم الألوهية على العالمية، وجرد إلهه من التجسيد وحرره من الأشكال الحيوانية والإنسانية ورمز له بقرص الشمس، آية النور لتدل عليه، ووصفه بأنه الإله (الواحد الأحد) حسب ما جاء في نشيد أتون الكبير، وبهذا يكون إنسان وادي النيل قد انتقل من التوحيد البدائي إلى التوحيد الخالص. ويخلص الأستاذ علي إلى أنه طرحت المدارس اللاهوتية القديمة في وادي النيل نظريات عن الخلق، مثل الخلق بالكلمة مماثلاً لما جاء في الأديان الكتابية لاحقاً، ووضعت تصوراً للحياة الأخرى ارتضته تلك الأديان بعد ما صححته ثم جعلته من شروط الإيمان بها مثل الإيمان باليوم الآخر وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، فضلاً عن الشعائر مثل الصلوات والأدعية والتعاويذ والحج والأضاحي والمعابد. كذلك ظهر في هذه الفترة عدد من الحكماء قالوا ما هو شبيه بمواعظ الأنبياء والرسل. واستنتج الباحث على أحمد إبراهيم أن الله هدى إليه العقول من خلال تجاربها، وإن الأنبياء والرسل لم يجيئوا ليخبروا الناس بأن لهم خالقاً، وإنما جاءوا ليصححوا تصورهم عن الخالق وعقيدتهم فيه، ويعلمونهم الطريق الأمثل لمعرفته والصفات المثلى التي تليق به.
الشاهد أن الدين والديانات والتدين ليست بالأمور الجديدة على شعوب سودان وادي النيل، كما أن علاقة الدين في سودان وادي النيل وارتباطه بتنظيم الحياة والتغيير والحكم والحاكم ليس بالأمر الجديد كذلك. ففي عهد مملكة مروي كان الملوك يحكمون بالحق الإلهي(تاج السر: 2008م. ص 84) والملكية المقدسة. كانت القدسية مستمدة من عقيدة الكوشيين في معبودهم الأول، ومُعطي الملكية الإله آمون، وهو كبير الآلهة (ملك الآلهة) عند الكوشيين (مروي)، ثم أشركوا “أبادماك” معه في تلك المكانة في القرون الأخيرة من عمر الدولة المروية (عمر: 2006م. ص 120).كان (أبادماك) أعظم الآلهة المحلية آثاراً وقد عرف بالاسم المروي (بدمكاك/ أبمك/ أبرمك/ أبيدماك)، وهو الإله الذي رمزوا له بتماثيل الأسد وصوره، وبالشكل المركب من جسم إنسان ورأس أسد (عمر: 2006م. ص 128). (يرجح عمر حاج الزاكي أن الإله آمون في الأصل معبود محلي (سوداني) ثم أخذه المصريون وطوروا عبادته وعاد للسودان معهم فأقبلوا على عبادته لمعرفتهم السابقة به) (عمر: 2006م. ص 126).
تكييف المزاج الديني: من المدينة المنورة إلى القاهرة
شهد السودان دخول الديانة المسيحية وازدهارها في فترة الممالك النوبية الثلاثة. وفي فترة سلطنة الفونج(1504م-1821م) اصبحت “الصوفية” مركزية الاستقطاب والولاءات، كان من أهم منجزات المنهج الصوفي “سعيه تحت راية الإسلام لإضعاف العصبية العرقية والولاء القبلي … وقد أسهمت الطرق الصوفية بسبب غياب حكومة مركزية قوية في تكوين الأطر الاجتماعية والدينية بين الشعوب السودانية في كنف الإسلام” (يوسف: 2008م. ص 188). وفي واقع الأمر أن ما حدث من انتقال في التمحور حول شيخ القبلية إلى التمحور حول شيخ الطريقة، كان نتاجاً طبيعياً لفعل وفعالية المنهج في سعيه لترفيع الناس عن الولاء من شيخ القبيلة إلى شيخ الطريقة. اتجه السودان، كما يقول محمد عمر بشير، في الفترة السنارية بنظره إلى الشرق أي صوب الحجاز والجزيرة العربية أكثر من اتجاهه صوب مصر، وذلك أمر طبيعي إذ كانت مكة والمدينة تمثلان مركز الوحي الديني والروحي أكثر من القاهرة (محمد عمر بشير: ص 15). وعلى الرغم من هجرة بعض السودانيين إلى الأزهر الشريف للاستزاده من معارفه الإسلامية، واهتمام العلماء السودانيين بتحفيظ القرآن الكريم وتفسير ونشر الفقه خاصة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ومختصر خليل بن إسحاق والتوحيد والحديث والسيرة وعلوم اللغة العربية. إلا أن هذه الثقافة الفقهية … لم تستهوِ كل السودانيين، إذ فضل عامة الناس الانخراط في سلك الطرق الصوفية… وكان انتشار الإسلام على أيدي مشايخ الطرق الصوفية أوسع نطاقاً فأحبهم العامة والخاصة… وقد دفع هذا الوضع الفقهاء ليترسموا خطى رجال التصوف (يوسف: 2008م. ص 187-188). ويرى الأستاذ محمد الواثق:أن التصوف “وتصوف “الفقرا” بوجه أخص كاد يقوم مقام الدين نفسه في الفترة السنارية، ومن ثم يشكل المزاج الديني للسودانيين” (محمد الواثق: 2009م. ص 15). وكان من أهم سمات المنهج الصوفي تقبله للتنوع، يقول فرانسيس دينق: “الإسلام الصوفي، مثل المعتقدات والتقاليد الأفريقية، فهو أكثر مرونة في تقبله للتنوع في التعبير الفني والإفساح للطاقة الفنية مقارناً بالإسلام الفقهي الرسمي” (فرانسيس: 1999م. ص 60). جاء الإسلام الفقهي الرسمي في فترة التركي/ المصري (1821م-1885م). كما بدأ معه اهتمام الإرساليات المسيحية بالسودان، كان مجيء الآباء الكاثوليك- مثل دانيال كمبوني- الذين نشروا الكنائس في شمال السودان، وانتشرت المسيحية في جنوبه. ثم جاءت المهدية التي ألغت المذاهب والطرق الصوفية واعتبرت الانتظام في سلك المهدية هو السبيل الوحيد للخلاص (عبداللطيف: 1998م. ص 29). ثم جاء الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري عام 1898م، ومنذ الوهلة الأولى كما يرى الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م): عمل، (الاستعمار البريطاني) بعد تجربته مع الثورة المهدية، على تقوية علماء الفقه على حساب المتصوفة. وسعى إلى تقليص نفوذ قادة الطرق الصوفية (محمد أبو القاسم: 1996م. ص 98-99).الشاهد أن السودان حينما نال استقلاله، مرت شعوبه بتقلبات في المزاج الديني. وكان يعيش تنوعاً دينياً قوامه الإسلام، والمسيحية وكريم المعتقدات الأفريقية. وكل دين من هذه الأديان متنوع في داخله بالعديد من الطوائف والطرق.
البريطانيون وادعاء النبوة ومكانة الدين في نفوس أهل البلاد
هل يعبر ادعاء النبوة عن تطرف ديني كامن في عمق بسيط تحت السطح، كما عبر أحد البريطانيين؟
كانت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أكثر الفترات التي ظهر فيها ادعاء النبوة. ففي الفترة من 1899م إلى 1918م، ظهر عدد من الحركات الدينية التي تعبر عن رفضها للاستعمار البريطاني/ المصري (1898م-1956م). وقد وردت الإشارة لذلك عند عدد من الباحثين والمؤرخين والكتاب منهم: محمد عمر بشير(1926م-1993م)، في كتابه:تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900م-1969م، وأحمد إبراهيم دياب، في كتابه:المقاومة للإدارة البريطانية (1900م-1924م)، ومحمد سعيد القدَّال(1935م-2008م)،تاريخ السودان الحديث 1820م-1955م، وكمال الجزولي، في كتابه:إنتليجنسيا نبات الظل: باب في نقد الذات الجمعي، وجون فولJohn O. voll في دراسته: “أبو جميزة: هل هو مسيلمة المهدي؟ التي نشرت ضمن كتاب: الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية. مثلت الحركات الدينية شكلاً من أشكال المعارضة للحكم البريطاني. وينطلق أغلب قادة تلك الحركات من ادعاء النبي عيسى أو المهدي المنتظر. يرى محمد عمر بشير الذي أورد نماذج من الحركات الدينية بقيادة بعض الذين ادعوا النبوة خلال الفترة من عام 1900م إلى عام 1915م، يرى محمد عمر بشير إن ادعاء النبوة، يعود إلى ارتباط معارضة الاستعمار الإنجليزي بالدين، ومفاهيم نزول النبي عيسي (محمد عمر بشير: ص. 70). ويرى المؤرخ محمد سعيد القدَّال: أن تلك الحركات الدينية توضح أن روح المهدية لم تنطفىء تماماً رغم الهزيمة. كما توضح مكانة الدين في نفوس أهل البلاد. وأما دعوة النبي عيسى فهي امتداد للحركات الألفية التي شهدتها مناطق مختلفة من العالم الإسلامي” (القدال: 2002م. ص 409). ويضيف القدال قائلاً: “وتقول الدعوة الألفية إنه قبل نهاية العالم سيأتي الدجال، ثم يعقبه الظهور الثاني للنبي عيسى الذي يقتل الدجال. وبعد ذلك يتحول العالم كله إلى الإسلام”( نفسه: ص 409). وعن علاقة ادعاء النبوة والمهدية بالدين في نفوس الناس، كتب القدَّال قائلاً: “وتبرز الدعوتان المهدية والألفية دور الدين في نفوس الناس، باعتباره الأفق الوحيد المتاح أمامهم حينئذ، ويمكنهم أن يشيموا فيه الخلاص”( نفسه: ص 409). ويرى الأستاذ كمال الجزولي أنه: “مهما يكن من أمر، فإن (حركات النبي عيسى) تمثل، في أكثر التحليلات سداداً، ملمحاً مهماً من ملامح المرحلة الأولى (للحركة الوطنية)، أو، على أقل تقدير، شكلاً متميِّزاً من أشكال (المقاومة الأوليَّة) للاستعمار…” (كمال: 2008م. ص 101-103).
وصف الأستاذ أحمد خير المحامي (حوالي 1905م-1995م) تلك الحركات الدينية، في كتابه: كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان. وانتقد القدَّال وصف أحمد خير قائلاً إنه: وصف لا يخلو من إجحاف. إن فشل تلك الحركات أفرز الحاجة إلى بدائل أخرى تتولى توجيه وقيادة النشاط السياسي (القدال: 2002م. ص 413). كان أحمد خير المحامي قد وصف قيادات تلك الحركات قائلاً بأنها قيادات: “ضاربة في غياهب الجهل وتائهة في سراديب التعصب… وهي التي انفردت بتعكير صفو الأمن بين الفينة والأخرى، وفي جهات مختلفة تحت اسم الثورة الدينية، تزهق فيها الأرواح ويسفك الكثير من الجهد والمال، قبل أن يلقى قادتها حتفهم، في حومة الوغى أو على خشب المشانق، دون كبير عطف أو اهتمام من الرأي العام (أحمد خير: 2002م. ص 13).
كتب جون فولJohn O. voll في صدر دراسته عن حركة أبو جميزة في غرب السودان، والتي كانت بعنوان: “أبو جميزة: هل هو مسيلمة المهدي؟ وقد صدرت الدراسة ضمن كتاب: الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية(فول: 2000م. ص 157-178)، كتب جون فول قائلاً: “وكان الاعتقاد التقليدي أنه بعد ظهور “المهدي” وهزيمته الأولية، سوف يأتي “نبي الله عيسى” وقد فتح هذا المعتقد الطريق أمام عدد من المتحمسين دينياً وأقلية من اتباع “المهدي” الذين كرسوا أنفسهم للعبادة كي يطيحوا بالحكومة الكافرة باستخدام القوة. وباستثناء سنوات الحرب، كان من الصعب مرور عام خلال الجيل الأول من الحكم المشترك، (الحكم الثنائي الإنجليزي المصري) بدون هبة “مهدية”. وعن موقف البريطانيين ورؤيتهم وتحليلهم لظاهرة ادعاء النبوة. كتب القدَّال قائلاً (القدال: 2002م. ص 409): “وكان البريطانيون مدركين لذلك الدور الديني. فقال البرفيسور ولفرد سميث،إن احتلال مسيحي لدولة مسلمة لا يعني أن سيادتهم قد فقدت وأن النظام السياسي قد تحطم، وإنما يعني أن التاريخ نفسه قد انحرف عن مجراه وأن نسق الكون قد اختل. وقد عبر لورد ملنر عن تخوف الإنجليز من الحركات ذات الطابع الديني، حيث كتب في تقرير له يقول: إن امكانيات التطرف الديني كانت في عمق بسيط تحت السطح. وكتب اللورد ملنر يقول إن خضوع المسلم لحاكم مسيحي يعارض روح الإسلامي نفسها. وأضاف القدَّال قائلاً: وعبر أحد البريطانيين عن تخوفه من الحركات الدينية وإمكانية انفجارها في السودان، حيث إن التطرف الديني كامن في عمق بسيط تحت السطح (نفسه. ص 409). وكان ونجت قد قال إن المهدية لم تمت تماماً في السودان، لقد خنقت ولكن ماتزال تمتلك الكثير من الحيوية، وسوف تظهر على السطح كلما سنحت لها الفرصة. ويرى ونجت أن هذا ليس بمستغرب لأن غالبية الجيل الحالي قد ولد وترعرع في العقيدة المهدوية. لذلك أكد كتشنر على مديري المديريات عام 1899م بأن يقهروا فوراً وبعنف أي تمرد أو عصيان له توجهات دينية. وجاء ونجت ليقول: “يتعين علينا ألا نتراخى لحظة في احتياطاتنا ضد انتشار مثل هذه الحركات. والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك بإمكانياتنا المحدودة أن نسحقها في بدايتها بلا رحمة”(نفسه. ص 409). نلتقي في الحلقة القادمة، والتي سأتناول فيها محور: “الخريطة الزمانية والمكانية للأنبياء الجدد في السودان: جون فول و”مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”.
الخريطة الزمانية والمكانية للأنبياء الجدد في السودان
جون فول و”مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”
من المهم الإشارة إلى أن هذا الدراسة تُعنى بمن أعلن عن نفسه بأنه نبي، ولا تعطي اعتباراً لمن شاع عنه أنه نبي. كان جون فول John O. voll قد درس حركة أبو جميزة، الذي أعلن عن نفسه بأنه نبي. وقد ظهرت حركته في غرب السودان، كما وردت الإشارة آنفاً، ضمن ظاهرة، “الأنبياء الجدد” كما وسمهم فول. وقد شاعت اخبارهم في عصر أبو جميزة. كتب فول قائلاً: إن الحركة لم تكن حالة معزولة، ففي أقصى الغرب من منطقته رفع عدد من الزعماء الدينين لواء المقاومة الدينية. وأضاف جون فول قائلاً: “وفي دراسة الثورات الدينية ضد المهدية خلال فترة الخليفة عبدالله يقرر كاتب إحدى الدراسات العامة أنه بمعرفة عدد من أدعوا النبوة في (دار تامة) يجب أن نطلق عليها (مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة). ولم تكن ظاهرة الزعماء الذين يسعون إلى أن يكونوا من أنبياء الله (عيسى) أو آخرين من الشخصيات المؤمنة البارزة قاصرة على غربي دار فور، فقد ظهر كثيرون من أمثال هؤلاء الناس خلال فترة المهدية وأيضاً في بواكير القرن العشرين في مناطق مختلفة كثيرة من السودان. نظر جون فول لشخصية أبو جميزة الذي ظهر في غربي دار فور وذاعت شهرته عام 1888م، بعد ثلاث سنوات من وفاة المهدي، وشخصية مسيلمة الذي أدعى النبوة، ووصف بالنبي الكذاب، في القرن الأول الهجري، ورأى جون فول أن التشابه العام في وضع “مسيلمة” و “أبو جميزة” يجعل من المقارنة بينهما أمراً مغرياً. ثم طرح جون فول عدة أسئلة منها: هل كان أبو جميزة هو مسيلمة المهدي أم لا؟ قدم جون فول مقاربته بين أبوجميزة ومسيلمة، باعتبار أنها مقاربة جديرة بالبحث في بُعدها السوداني لأنها يمكن أن تزودنا بمنظور لفهم أبعد مدى حول مغزى وطبيعة الثورات الدينية في سودان القرن التاسع عشر والعشرين. كما يمكن أن تزودنا أيضاً بملاحظات مفيدة في المجال الأوسع عن دراسة حركة التجديد الإسلامي على وجه الخصوص، وكذلك التجديد في الأعراف الدينية بوجه عام. كان أبو جميزة قد توفي فجأة بالجدري. ختم جون فول دراسته قائلاً: “ويمكن النظر إلى حركة كل من أبوجميزة ومسيلمة باعتبارهما حالة لدراسة حركات الإحياء الديني التي أخفقت. ومهما يكن، فعند فحص تاريخيهما، يصبح في الإمكان تصنيف ديناميكيات أوسع في التاريخ الاجتماعي الديني. وبتمثيل اتجاه أكثر محلية في معارضة اتجاه أكثر شمولاً، وربما كان (أبوجميزة) هو (مسيلمة المهدي).
يقول محمد عمر بشير:على الرغم من أن المهدية قد هزمت في المواقع الحربية وحرمت أفكارها إلا أن أيديولوجيتها ظلت قائمة ومستمرة. وجذب هذا الادعاء الفريد بالنبوة انتباه القبائل. وبدا أملاً لإزالة سخطها وذلك بالادعاء بأنه بعد انهزام المهدية يأتي المسيح من السماء ليقود المؤمنين الانصار ضد أعداء المسيحية الذين يعتبر البريطانيون من بينهم. ومن ثم يعود من جديد العصر الإسلامي السعيد. إن أول مظاهر المهدية جرت في عام 1900م بأم درمان- عاصمة المهدية ومعسكر حروبها- (محمد عمر بشير. ص 70-71). يقول القدَّال: ظهرت حركة على عبدالكريم،وهو أخ محمد عبدالكريم القائد الشهير ومن أقرباء المهدي. فقد أعلن دعوة دينية وشكل اتباعه جمعية. رأت الحكومة في دعوته نذير خطر عليها (القدال: 2002م. ص 410). ورأت الجماعة أن نبي الله عيسى ظهر بينهم، يقول البروفيسور أحمد إبراهيم دياب:” وقد نادت تلك الجمعية بأن نبي الله عيسى قد ظهر بينهم ممثلاً في زعيمهم على عبدالكريم (دياب: 2006م. ص 21). تم القبض على الزعيم على عبدالكريم مع تسعة من الأنصار. استناداً على اتهامهم بالدعوة للمهدية وحض الناس على التمرد. ولما استجوب على عبدالكريم واتباعه لم ينكروا اعتقادهم في المهدي وفي توقع نزول النبي عيسى لإنقاذ السودان والعالم الإسلامي قاطبة. واعترفوا بأنه أوحي إليهم بشىء من ذلك. فقد كان عليهم الوقوف في مواجهة الحكومة لأن ذلك يكون إلهاماً قدسياً لا يرد (محمد عمر بشير. ص 70-71). أطلقت جماعة ود عبدالكريم على نفسها (عباد الله). وكان لها خمس شعائر للإيمان (محمد عمر بشير. ص 70-71) هي:
1. كل ما يعمل بالأقوال أو الأفعال يكون صحيحاً إذ أنه (بفعل الله).
2. إن الله ساهر على كل خلقة وأنه لن يتخلى عن من يؤمن به.
3. كل ما يحدث من خير أو شر فهو من إرادة الله.
4. لنسبح بحمدالله عند وقوع الشر أو الخير. وعلينا أن نسبح باسم الله.
5. كل الأفعال تعزى إلى إلهام من الله.
شكل الحاكم العام مجلساً لمحاكمة علي عبدالكريم واتباعه، وكان مجلس المحاكمة برئاسة نعوم شقير وعضوية ندا قاضي أم درمان والطيب أحمد هاشم قاضي الخرطوم ومحمد شريف نورالدائم (باشا) ومجموعة من رجال الدين (القدال: 2002م. ص 410). وبالنظر للبند الخامس المتعلق بالوحي الإلهي يكون من الأوفق أن يبعد عدد من قادة الجماعة- الأرجح أن عددهم سبع وعشرون- من أم درمان بأسرع فرصة ممكنة (محمد عمر بشير: ص 74). حكمت المحكمة على علي عبدالكريم بالنفي إلى وادي حلفا، وعلى ستة عشر شخصاً من أتباعه بالسجن. وبقى الرجل في المنفى حتى وفاته عام 1941م (القدال: 2002م. ص 410). استمر النشاط السري لهذه الجماعة حتى عام 1920م، حين أدانها السيد عبدالرحمن المهدي واصفاً إياها بأنها حركة ملحدة (دياب: 2006م. ص 21).
وفي عام 1902م، ظهر في جنوب دارفور الفكي محمد الحرين، وهو من البرنو. وادعى أنه المهدي، فاعتقل وأعدم (محمد عمر بشير. ص 24؛ القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1903م، عاد رجل يدعى محمد الأمين، وهو جعلي، من أداء فريضة الحج، وذهب إلى جنوب دارفور. وفي تقلي أعلن أنه من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه نبي الله عيسى. فأرسلت الحكومة قوة عسكرية وحاصرته واستسلم دون مقاومة. لكن القوة أحرقت القرية وصادرت ممتلكاتها، واقتادت الرجل إلى الأبيض. فساد المدينة توتر خشيت الحكومة من تطوره. كما نما إلى علم الحكومة أن بعض قبائل كردفان قد تنضم إليه إذا هرب. فأعدمته في مكان عام دون محاكمة ودون أن توجه له تهمة. ثم أعلنت الحكومة كذباً أن الإعدام تم بعد محاكمة عاجلة اقتضتها الضرورة العسكرية (القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1904م أدعى محمد ود آدم الدنقلاوي في سنار أنه النبي عيسى. وأعلن أنه يتلقى الوحي (محمد عمر بشير. ص 72) ، فأرسلت عليه الحكومة قوة عسكرية، فصادمها وقُتل تسعة من جماعته، كما قتل مأمور سنجه. ثم اعتقل وأعدم ومعه أثنان من اتباعه(القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1904م أعلن محمود آدم في سنجه، بمديرية الفونج، أنه نبى الله عيسى، فقتل بعد مقاومة عنيفة من اتباعه (دياب: 2006م. ص 23).وفي عام 1906م أدعى سليمان ود البشير، الذي كان يعمل خياطاً في واد مدني، أنه نبي الله عيسى. ولكن سرعان ما اعتقل (القدال: 2002م. ص 411). وفي ديسمبر 1906م أدعى موسى أحمد البرقاوي في كسلا أنه نبي الله عيسى واعتقل (القدال: 2002م. ص 411). وفي العام التالي أدعى أثنان أنهما أنبياء الله عيسى وتم نفيهما (القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1907م قبض على رجل من أهل برقو بالقضارف، ادعى أنه نبي الله عيسى، ولكنه لم يبشر بدعوته ولم ينضوِ أناس تحت لوائه (دياب: 2006م. ص 23). كما ادعى نفس الدعوة رجل في مدني غير أن دعوته لم تدم طويلاً وقبض عليه (دياب: 2006م. ص 23). وفي عام 1909م ادعى عبدالله فضل في جبال النوبة أنه المهدي، فاعتقل وسجن في الخرطوم. ثم أثبت التقرير الطبي أنه مختل العقل (القدال: 2002م. ص 412). وفي عام 1910م ظهر في سنار الفكي نجم الدين، وأخذ يثير الأهالي مدعياً أنه النبي عيسى. فاعتقل واعدم. وفي عام 1910م أعلن الشريف مختار ود الشريف هاشم من قبيلة الشنابلة أنه النبي عيسى (محمد عمر بشير. ص 74). تم القبض عليه وأعدم. وفي عام 1910م ظهر في النيل الأبيض الفكي مدني مدعياً أنه نبي الله عيسى فاعتقل (القدال: 2002م. ص 412). وفي عام 1912م أعلن الفكي عكاشة أحمد، وهو من أتباع عبدالقادر ود حبوبة، أنه المهدي وجمع حوله عدداً من الأتباع. فأرسلت عليه الحكومة قوة فصادمها وقتل في الصدام. وفي عام 1915م أعلن أحمد عمر الفلاتي، وهو من سكوتو، أنه نبي الله عيسى، وبدأ دعوته في دارفور. فاعتقل وأعدم (القدال: 2002م. ص 412).وفي عام 1918م بشرق السودان كانت حركة محمد الحاج سانبو في كسلا الذي أدعى أنه المهدي، جمع بعض الاتباع وهاجم قلعة كسلا (محمد عمر بشير. ص 81؛ القدال: 2002م. ص 344). وفي عام 1919م أدعى محمد السيد حامد أنه النبي عيسى بمديرية الفونج. ولكن ما لبث أن القى القبض عليه وأعدم شنقاً (محمد عمر بشير. ص 81). وفي عام 1921م ظهر في نيالا في جنوب دارفور الفكي عبدالله السحيني مدعياً أنه نبي الله عيسى. وأعلن الجهاد ضد الحكومة. وتجمع حوله الاتباع فشن هجوماً على مركز نيالا وقتل المفتش البريطاني والضابط وكتبة المركز. أرسلت الحكومة قوة عسكرية بقيادة الضابط بلال رزق ومعه خمسون جندياً. فاعتقل السحيني وأعدم في ساحة السوق، وواصلت الحكومة ملاحقة اتباعه (القدال: 2002م. ص 412-413).نلتقي في الحقلة القادمة، والتي سأقف فيها على بعض الذين ادعوا النبوة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى تاريخ اليوم.
للأمر جذور أبعد
من المهم الإشارة، كما ورد في الحلقات السابقة، إلى أن هذا الدراسة تُعنى بمن أعلن عن نفسه بأنه نبي، ولا تعطي الدراسة اعتباراً لمن شاع عنه أنه نبي.الشاهد أنه برغم أن بعض الدارسين، كما ورد آنفاً، أرجع ظاهرة ادعاء النبوة إلى شيوع حركات النبي عيسى، وارتباطها بالنضال ضد المستعمر البريطاني خاصة بعد نجاح نموذج الثورة المهدية، إلا أن وجود الظاهرة قبل الاستعمار البريطاني، واستمرارها بعد ابتعادنا عن مرحلة شيوع حركات النبي عيسى، وحتى يومنا هذا، يحمل الكثير من الدلالات والمضامين. فالفكرة في السودان (كما هو معلوم، كانت بلاد السودان، وهو الاسم الذي اطلقه الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين، تشمل كل المنطقة جنوب الصحراء الكبرى، وأحياناً كل إفريقيا)، كما المهدية نفسها، ترجع إلى غرب أفريقيا، فقد راجت الفكرة رواجاً كبيراً في غرب أفريقيا وبالذات في القرن الثاني عشر الذي شهد حركة الموحدين في الريف المراكشي على يدي المصلح الأمازيغي المهدي بن تومرت (المنقذ المنتظر). ولفكرة الانتظار والمخلص… إلخ
حضور كبير لدى الشيعة. ومعلوم أن ثمة تسربات شيعية قوية في بدايات الأصل الموحدي. وفكرة الرجوع أو الظهور موجودة في أيضاً في الديانتين اليهودية والمسيحية ومقترنة يشخص النبي عيسى بن مريم. على أن الربط الشرطي بين ظهور المهدي ورجعة المسيح هي عقيدة سنية محضة. ولها جذور في سنن ابن ماجه والترمذي وغيرهما من كتب الحديث. (ي. أ. بيلاييف: 1973م؛ محمد أركون ولوى غارديه: 1983م؛ أحمد جلي: 1988م). إن تأثير غرب أفريقيا على السودان تأثير كبير كما الحال بالنسبة لتأثير مراكش على غرب أفريقيا. ولهذا فالأمر لا ينفصل عن ظهور حركة الموحدين. الشاهد أن فكرة ادعاء النبوة تعبر في شكل من أشكالها عن شدة ارتباط السودانيين بالدين. وتكشف عن أن الدين في السودان ظل وما يزال هو المحرك للحياة والمحدث للتغيير. فقضايا السودان الكبرى كلها تتصل بشكل مباشر بالدين. لقد ظل السودان موطناً صالحاً لادعاء النبوة، فقد تجاوز العدد الثلاثين نبياً، ومع استمرار البحث فإن العدد سيكون أكثر من ذلك. فالظاهرة لم تتوقف وظلت مستمرة حتى تاريخ اليوم، والشواهد على ذلك كثيرة. لقد قدم كتاب:الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان(محمد بن ضيف الله: 1992م)، للشيخ محمد النور بن ضيف الله(1728م-1810م)، والذي حققه البروفيسور يوسف فضل حسن، قدم الكتاب العديد من قصص ادعاء النبوة وحالات الجذب الإلهي والشطح والجذب في حب الله ورسوله، والكرامات والغرق،… إلخ، من هذه القصص قصة الشيخ محمد الهميم، (محمد بن ضيف الله: 1992م. ص 212، 316)، وقصة ادعاء الشيخ حمد النحلان بن محمد البديري المشهور بابن الترابي، بأنه المهدي في مكة (محمد بن ضيف الله: 1992م. ص 165)، وغيرها من القصص.
في يوم 29 مارس 1951م أجرى الأستاذ صالح بان النقا حواراً مع الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري آنئذ، وسأله من ضمن الأسئلة عن اعتقاد أبو بكر خاطر بأنه نبي ورسول، والذي يعتقد كذلك بأن الأستاذ محمود نبي، سأل صالح بان النقا قائلاً للأستاذ محمود: “يعتقد العم خاطر أنه نبي ورسول، وأن الآيات القرآنية لا تؤكد عدم وجود الأنبياء بعد محمد كما أنه يعتقد أنك نبي، وفي كلا الاعتقادين لدينا شك وشكوك”. أجاب الأستاذ محمود قائلاً: “لا نبي بعد محمد من لدن بعثه إلى قيام الساعة”. وأضاف الأستاذ محمود حينما سأله صالح بان النقا عن خلاصة ما يعتقده بشأن العم خاطر، أضاف الأستاذ محمود قائلاً: “وخلاصة ما أعتقده أن الأخ أبا بكر خاطر كسائر العباد عبد مسير لا يملك من أمر نفسه شيئا وقد أراد الله تعالي به فأقامه في ما أرجوه له وهو عند نفسه صادق لأنه لا يقول إلا ما يري ولكنه ليس عند الله بصادق لأن الذي يراه مزيج من الحق والباطل والله أعلم”. (للمزيد أنظر:”ساعة مع الأستاذ محمود محمد طه ، رئيس الحزب الجمهوري سابقاً”، حوار صالح بان النقا، موقع الفكرة الجمهورية [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] وفي عام 1968م أعلن أحدهم أنه المهدي المنتظر. جاء الخبر في صدر صحيفة الرأي العام، العدد 8168، الصادرة في يوم السبت 18 مايو 1968م، يقول عنوان الخبر: “يدعي أنه المهدي المنتظر”، وجاء في تفصيل الخبر: “ادعى طالب بمنطقة الجزيرة أبا أنه المهدي المنتظر وأعلن هذا على الملا، اعتقله البوليس ووضع بحراسة كوستي وبدأ التحقيق معه”. وكما ورد آنفاً فقد نشرت صحيفة الأحداث خبر الرجل الذي أعلن في الخرطوم أنه نبي وكان له اتباع في أغسطس من العام 2011م في العدد رقم: 1359. وفي يوم 14/2/2010م أورد موقع بوابة النيلين على الإنترنت، خبراً يقول: “ادعي شاب النبوة أمس بمسجد كلية التكنولوجيا بجامعة السودان عقب أدائه لصلاة الظهر. وقال شاهد العيان الطالب بالسنة الرابعة بكلية الآداب جامعة الخرطوم محمد حسين ميرغني لـ(حكايات)، أن مدعي النبوة أدي صلاة الظهر أمس ضمن المصلين بالصف الثاني وانبرى عقب الصلاة خطيباً في الناس وهو يحمل مصحفاً متحدثاً بأن الوحي قد هبط عليه وأنه يحمل رسالة جديدة الي المسلمين والمسيحيين علي السواء، وأن لديه رسالة كلف بإبلاغها الي المسلمين و(الخواجات).(موقع بوابة النيلين [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] وفي يوم 11 فبراير 2011م أوردت صحيفة كفر ووتر الإلكترونية، نقلاً عن صحيفة الانتباهة أن شخصاً اسمه سليمان أبو القاسم ادعى أنه عيسى ابن مريم. وقد وجّهت محكمة جنايات الأزهري برئاسة مولانا محمد الطيب تهمة الردة تحت المادة «126» من القانون الجنائي في مواجهة من ادّعى أنه النبي عيسى ابن مريم و«16» من أتباعه بعد فراغ المحكمة من استجواب المتهمين. وكان المتهمون قد أقروا عند استجوابهم بواسطة المحكمة بما نُسب إليهم من اتهام وأنهم أتباع للمتهم الأول سليمان أبو القاسم وأنه عيسى ابن مريم.وأنهم لا يؤدون صلاة الجمعة بالمسجد ويصلون بمنازلهم لأن إمام المسجد ليس من أتباع المتهم الأول، وأفاد المتهم الأول أمام المحكمة «سليمان أبو القاسم» بأنه عيسى ابن مريم. وفي عام 2012م أعلن أحد الشباب من أبناء الجزيرة على شبكة الإنترنت بأنه نبي. وهناك الكثير من الأنبياء مِنْ مَنْ لم يصل خبرهم للإعلام.
الشاهد أن استمرار الظاهرة يعبر عن ما هو أبعد من مفاهيم النبي عيسى ومفاهيم المهدي المنتظر، وإن ساعدت هذه المفاهيم على تفشي الظاهرة. يقول القدال: نحتاج لوقفة لدى تلك الحركات الدينية، لنستبين دوافعها والآثار التي خلفتها. فرغم جو الإرهاب الذي فرضه الحكم البريطاني، ظلت تلك الحركات تتفجر تباعاً. هل كان قادتها يدركون أن حركاتهم مقضي عليها بالفشل، وأنهم يقومون بمغامرة انتحارية إذا كان الأمر كذلك؟ فلماذا أقدموا عليها أم أنهم كانوا يتوقعون نجاح حركاتهم، غير مدركين للظروف الجديدة المحيطة بالبلاد وبتوازن القوى الجديد، كانت تلك الحركات تعبر عن رؤية مهدوية ضيقة، وعن رؤية ألفية أكثر ضيقاً، وفيها تقليد لا يخلو من جمود لحركة الإمام المهدي في القرن الماضي (19)، وكأنما حركته يمكن أن تتكرر مثلما تتكرر المسرحية. وهي تعبر عن ضعف الوعي الاجتماعي أمام التحديات التي يواجهها الناس (القدال: 2002م. ص 413). فما يزال ضيق الحياة وعنتها يغلفان حياة السواد الأعظم من أهل البلاد، دون أن يبصروا مخرجاً منها. فلم يبق أمامهم إلا اللجوء إلى “صاحب الوقت” أو المنقذ، الذي يأتيهم بقوى خارجة عن قدرتهم، فيركنوا إلى كنفه ويستكينوا إليه (القدال: 2002م. ص 413). وأضاف القدَّال قائلاً: “لم تمض تلك الحركات دون أن تترك بعض الآثار في مجرى الحركة السياسية السودانية. فهي رغم فشلها، حافظت على جذوة النضال مشتعلة بعد أن كاد الحكم البريطاني أن يطفىء وميضها برماد الغزو. ولكن فشلها كان أيضاً إعلاناً عن انتهاء دور الحركات الدينية في المسرح السياسي. فهي حركات تحمل الحنين إلى الماضي أكثر مما تحمل هموم الحاضر وأشواق المستقبل (القدال: 2002م. ص 413). نلتقي في الحلقة القادمة مع محور عنوانه: “الأنبياء والعرافون والطاقة الروحية وما وراء العقل”، إلى جانب خلاصات وخاتمة الدراسة.
الأنبياء والعرافون والطاقة الروحية وما وراء العقل
في تقديري أن ظاهرة ادعاء النبوة، والتي استمرت ولا تزال مستمرة، ما كان يمكن لها أن تتفشى لو لم تكن هناك بيئة صالحة وعوامل مساعدة، سواء من حيث الطاقة الروحية أو من حيث الإرث الحضاري أو من حيث الفهم الأوسع من ما يتداوله الناس اليوم عن مفهوم النبي. كذلك إن ظاهرة ادعاء النبوة تعبر عن حالة التدين ومدى تمكنه في نفوس شعوب السودان. فمن واقع الخريطة المكانية للذين أدعو النبوة، فإنهم كانوا من مختلف بقاع السودان: من دار فور وكسلا والقضارف وسنجه ووسط السودان، ودار تامة التي وصفها جون فول في دراسته، وقد وردت الإشارة إليها آنفاً، مستنداً على دراسة أخرى أشار إليها، قائلاً: إن(دار تامة) “مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”. تناول جون فولJohn O. voll في دراسته، آنفة الذكر: “أبو جميزة: هل هو مسيلمة المهدي؟ والتي نشرت ضمن كتاب: الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية، تناول إدعاء النبوة مستشهداً بابن خلدون، قائلاً: ” كما لاحظ أيضاً علماء الإسلام التقليديون انتشار ظاهرة الزعامة النبوية. فابن خلدون مثلاً كان يميز بين الأنبياء والعرافين. ومهما يكن، فهو يرى في تحليله أن العرافين الذين يعيشون في زمن أحد الأنبياء يدركون نفوذ النبي ويحاولون الاستحواذ على هذا النفوذ لحساب أنفسهم. فهو يقول في مقدمته: “العرافون المعاصرون لنبي من الأنبياء يدركون مصداقية هذا النبي ودلالة معجزاته… وما يمنع العرافين من التسليم بمصداقية هذا النبي ويدفعهم إلى إنكاره هو ببساطة رغبتهم الموجهة توجيهاً خاطئاً كي يكونوا هم أنفسهم أنبياء، وهذا ما يدفعهم إلى المعارضة الحاقدة. وهذا ما حدث لـمسيلمة. إن تعدد الساعين إلى النبوة في أوقات الشدة أمر معروف. من المعلوم، أن ابن خلدون خصص المقدمة الخامسة من مقدمته للحديث عن: “حقيقة النبوة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقةالكهانة ثم الرؤيا ثم شأن العرافين و غير ذلك من
April 2, 2013
(حريات)
قراءة في أحوال المزاج الديني في السودان: ادعاء النبوة
عبدالله الفكي البشير
مدخل
تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ظاهرة ظلت ملازمة لتاريخ السودان، وهي ظاهرة ادعاء النبوة. برغم أن بعض المؤرخين والكتاب يرى أن ادعاء النبوة في السودان يعود إلى مفاهيم نزول النبي عيسى، وارتباط الأمر بمعارضة الاستعمار الإنجليزي، ومع صواب هذا الرأي في بعض جوانبه، إلا أن استمرار ظاهرة ادعاء النبوة، بعد خروج الاستعمار، وابتعادنا عن وقت شيوع مفاهيم النبي عيسى، وحتى تاريخ اليوم، يجعل للأمر أبعاداً وظروفاً متجددة وأسباباًأعمق. ولهذا فهي ظاهرة تحتاج لمزيد من الدراسة والتنقيب والتفحص. لقد ظللت أتابع وأحاول رصد ادعاء النبوة في السودان في المصادر والمراجع منذ مملكة الفونج (1504م-1821م) وحتى تاريخ اليوم. فالإحصائيات عندي قاربت الأربعين نبياً، من الأنبياء الذين اطلعت على التوثيق لهم في المصادر والمراجع. وبلا شك هناك من فلت من التوثيق عندي. لعل هذا العدد يحمل مؤشرات يمكن أن تهدي لما تنطوي عليه المكونات، كما أنه يحمل الكثير من الدلالات والمضامين. تؤكد الدراسة أن الظاهرة على مستوى العالم، هي ظاهرة قديمة، وأن كثيراً من دول العالم شهدت أناساًادعوا النبوة، بيد أن بلوغ العدد في السودان قارب الثلاثين نبياً، ربما، مع الاحتراز ، كان السودان من الدول الأعلى عالمياً من حيث عدد الذين ادعوا النبوة، وربما، مع الاحتراز أيضاً، فاق هذا العدد، عدد الذين ادعوا النبوة في دول العالم الإسلامي. من المهم الإشارة إلى أن هذا الدراسة تُعنى بمن أعلن عن نفسه بأنه نبي، ولا تعطي الدراسة اعتباراً لمن شاع عنه أنه نبي. ومن المهم أيضاً، الإشارة إلى أن هذه الدراسة لا تحاجج في مدى صحة دعوة هؤلاء الأنبياء أو عدم صحة دعوتهم، كما أنها لا تجادل، هؤلاء الأنبياء أو اتباعهم في دعواتهم؛ وإنما تنشغل الدراسة بتقديم إضاءات عن الظاهرة واستمرارها، وتقدم أفكاراً أولية عنها، وتلفت الانتباه إلى ضرورة دراستها بمداخل علمية مختلفة: نفسية واجتماعية وسياسية ودينية… إلخ. لقد استأنست هذه الورقة بأفكار كثيرة، كما استشارت العديد من المصادر والكتب والدوريات… إلخ، وكل ذلك مثبت في قائمة المصادر والمراجع. تطرح الورقة العديد من الأسئلة، وتحاول الإجابة عليها، وتنتظر كذلك تلاقح الرؤى وتزاوج الأفكار مع الآخرين. ومن الأسئلة: هل هناك علاقة بين ادعاء النبوة وتدين أهل السودان؟ هل يعبر ادعاء النبوة عن أشواق للحلول الدينية؟ وما هي العبرة من كثرة مدعي النبوة؟ هل في هذا أي مؤشر لطاقة روحية، أو مؤشر لأمر لا نستطيع إدراكه إلا مستقبلاً؟ هل لادعاء النبوة جذور أبعد من دخول الإسلام في السودان؟ لماذا استمر ظهور الأنبياء في السودان؟ هل هناك صلة بين ادعاء النبوة في السودان والشعور بالذات أو فقدانها أو ضياعها أو الوعي بها؟ هل هناك شعور بخصوصية العلاقة مع الدين الإسلامي؟ هل للأمر صلة بقضايا الهوية؟ هل ادعاء النبوة يعبر عن دلالات لم نستطع الكشف عنها؟ وهل يعبر ادعاء النبوة عن أن التطرف الديني كامن في عمق بسيط تحت السطح، كما عبر أحد البريطانيين عن تخوفه من الحركات الدينية وإمكانية انفجارها في السودان؟ وهل وقف الأمر عند حد ادعاء النبوة، أمارتفع السقف إلى ادعاء الألوهية؟ وربما تكون هناك أسئلة أخرى. تحاول الورقة، بقدر ما تيسر لها، تقديم إشارات للدين والتدين في فترة مملكة كرمة (2500ق.م.- 1500ق.م.)، ومملكة كوش التي عاشت نحو عشرة قرون (750ق.م.- 350م)، بفرعيها الشمالي نبتة (750ق.م.- 590ق.م.)، والجنوبي مروي (590ق.م.- 350م). ولكي ما تنهض هذه الورقة بموضوعها وتحقق أغراضها فقد تهيكلت في المحاور التالية:
مدخل
الاطار الجغرافي للدراسة
آخر توثيقاتي للذين ادعواالنبوة
أحوال المزاج الديني في السودان: مشروع في مرحلة التخلق
الحكماء وإرث الحق الإلهي
تكييف المزاج الديني: من المدينة المنورة إلى القاهرة
البريطانيون وادعاء النبوة ومكانة الدين في نفوس أهل البلاد
الخريطة الزمانية والمكانية للأنبياء الجدد في السودان
جون فول و”مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”
للأمر جذور أبعد
الأنبياء والعرافون والطاقة الروحية وما وراء العقل
خاتمة
السودان: الحالة الثقافية الفريدة والشىء النادر
قائمة المصادر والمراجع
الاطار الجغرافي للدراسة
بالرغم من أن جمهورية السودان القائمة اليوم تمثل الاطار الجغرافي لهذه الدراسة، إلا أن موضوع ادعاء النبوة له تمددات جغرافية وزمانية، عابرة لأقاليم السودان الحالي، ولهذا كان لابد من الإشارة إلى أن السودانكانت له تمددات جغرافية، كما عُرف قبل رسم الكينونة السياسية الحالية، بأسماء مختلفة، فقد عُرف الجزء الشمالي بـ: “واوات” و”يام” و”كوش” الذي اشتهر عند المصريين والآشوريين والعبرانيين والأكسوميين، و”تانسي” و”تايسي” و”أثيوبيا” عند اليونان، و”نوباديا” عند الرومان، وهو نفس اسم “بلاد النوبة” الذي أطلقه الجغرافيون العرب على ممالك النوبة المسيحية الثلاثة. وعرفت نفس المنطقة بأسماء محلية أخرى مثل: نبتة ومروي، وعرفت بعض الأجزاء الواقعة إلى الجنوب بالفونج والفور وتقلي (يوسف: 2008م. ص 202-204). اتخذ السودان اسمه من تسمية أطلقها المؤرخون والجغرافيون العرب، وعرفت ببلاد السودان. ففي تعاطيهم مع إفريقيا، القارة اليوم، وشعوبها، أطلق الرحالة والجغرافيون تعبير بلاد السودان على البلاد الواقعة جنوب الصحراء الكبرى من القارة الإفريقية (قاسم: 2006م. ص 17). وعن معنى كلمة السودان ودلالاتها يقول الخير محمد حسين: اعتمدمعظم الكُتاب السودانيون على المصادر العربية في تعريفهم معنى السودان، فقد كتب حسن الفاتح قريب الله بمجلة الثقافةالسودانية، العدد (16)، ديسمبر 1980م، تحت عنوان: “السودان بينالوصفية والإسمية”، قائلاً: لون شعب هذا الوادي واختلاف سحنته عن سواه،ومقابلته بشرته، هو الذي أكسبه الوصف بالسودان. أما عبد الله الطيب فقد اعتمد على رسالة الجاحظ: “فخر السودان على البيضان”، وقال إن السودان تعني جمع أسود. ويضيف الخير قائلاً: وإذاما رجعنا إلى المعنى الإفريقي في اللغة النوبية، نجد أن أصل الكلمة: “سَوْدان”Sawdan تعني بالنوبية: “المخلوط”، وهو ما ليس بالأبيض الباين ولاالأسود الباين، أي: وسط بين السواد الشديد والبياض الشديد.وعزى عدم شيوع المعنى كما جاء في اللغة النوبية إلى أن اللغة النوبية لم تجد الاهتمام الكافي، وعدَّد بعض اسباب عدم الاهتمام(الخير: مجلة احترام على صفحات موقع سودان للجميع، استرجاع (Retrieved)بتاريخ 2011م).كما استخدم الرحالة العرب المسلمين أيضاً، اسم بلاد الحبشة وبلاد البجة وبلاد النوبة وبلاد الزنج وبلاد التبر، وكلها تسميات كانت متزامنة مع تسمية بلاد السودان، التي سادت لاحقاً حتى فترة الاستعمار الأوروبيفي العصر الحديث. كان الإغريق وقدماء المصريين قد سبقوا العرب في تسمية هذه المنطقة، وفقاً للون بشرتهم. فقد استعمل الاغريق كلمة إثيوبي (الأسود أو محرق الوجه) لسكان إثيوبيا القديمة وسكان مدغشقر وسكان جنوب جزيرة العرب أيضاً (عثمان: 2005م. ص 88).”وعندما شاع استخدام اسم السودان في المكاتبات الرسمية منذ حوالي عام 1870م، شمل كل الأقاليم الواقعة شمال البحيرات العظمى وحتى القرن الأفريقي والسواحل الصومالية” (عبدالغفار: 1992م. ص 15). وفي فترة الاستعمار الأوروبي كان هناك السودان الفرنسي، والسودان الإنجليزي المصري. عندما استقلت شعوب إفريقيا من الاستعمار الأوروبي، “سقطت كلمة بلاد. وبعد الاستقلال.. أبقى سودان وادي النيل اسم السودان لجمهوريتهم بعد الاستقلال” (عثمان: 1992م. ص 120).
آخر توثيقاتي للذين ادعوا النبوة
كان الرجل الذي ادعى أنه نبي في عام 2011م، هو آخر توثيقاتي للذين ادعو النبوة في السودان. بعد أن تراجع نبينهاية عام 2012م من دعوته التي تناقلت أخبارها المنابر الحوارية على شبكة الإنترنت. جاء خبر نبي عام 2011م في أغسطس من العام 2011م في صدر العدد رقم: 1359من صحيفة الأحداث التي تبخرت ناحية السماء، مثل غيرها من الأشياء الجميلة. فحال صحيفة الأحداث مثل حال أشياء لا حصر لها في السودان، بعضها تبخر وبعضها الآخر في طريقة للتبخر، وهناك أشياء بدلاً من أن تتعتق، فإنها تخسَّرت بدورها وفقدت قيمتها. لقد تبخرت، كما ظللت أردد، وتلاشت كل المؤسسات الحاملة لرمزية الحداثة، وذات العائد التنموي، السكك الحديد، النقل النهري، ومشروع الجزيرة، والخطوط الجوية السودانية، وجامعة الخرطوم، …إلخ كلها تلاشت وتبخرت. وفي هذا إشارات ذات دلالات كبيرة. لم يبقَ لنا في السودان، إلى جانب استمرار ادعاء النبوة، سوى الصراعات والثأرات السياسية والحزازات الثقافية، وقائمة طويلة من الأصدقاء الدوليين: أصدقاء للحكومة، وأصدقاء لكل حركة، وأصدقاء لكل حزب سياسي، وأصدقاء لكل منظمة مجتمع مدني… إلخ. إن هذه الصداقات، الكثيرة والمتداخلة، هي قطعاً لا تعاف النهش من جسم السودان المتهالك. لقد تبخرت الخيرات، وتسرب الخراب إلى الأراضي والفهوم، وضاقت المواعين وتوسعت المطامع الدولية وتجددت، وأصبحت قضايا السودان مطروحة في سوق الدبلوماسية الدولية، بألوان مختلفة وأشكال عديدة حتى أصبح يصعب على المراقب السوداني، أن يميز عن أي سودان تتحدث هذه الدبلوماسية الدولية؟. القضايا عديدة والأسباب يصعب حصرها، والبلد قديم وعريق وواسع. الكل مكلوم، والجراح متجددة.برغم ذلك فإنني من المتفائلين، والمتفائل دوماً يتشبث بالأمل حتى ولو تبدى له في مناخ مفردة أو في رائحة حروفها. لقد تعلقت بكلمة كثيراً ما سمعتها في الشارع، بيد أني لم أدرك ضخامتها وقوة معانيها إلا حينما نطق بها الروائي الطيب صالح (1929م-2009م) في تلك الأمسية بمدينة الدوحة قبل نحو عقد من الزمان. كنت يومها مدعواً لوليمة عشاء على شرف الطيب صالح بمنزل السفير أحمد دياب، في تلك الأمسية قال الطيب صالح بعد أن سمع سيلاً من الآراء وقصص ومفردات التشاؤم بشأن مستقبل السودان، قال: “لكن يا أخوانا برغم هذا، الحاجات بِتبَتِّق” انتهى. ونحن في انتظار أن تبَتِّق الأشياء في السودان!!!.
مشروع في مرحلة التخلق
تقع هذه الدراسة: “قراءة في أحوال المزاج الديني في السودان:ادعاء النبوة”، ضمن مشروع بحثي مستمر ومفتوح، وهو لايزال في مرحلة التخلق. يتصل المشروع بأحوال المزاج الديني وتشكُّلاتهوتقلباته في السودان. من المعروف أن السودان قبل مجيء المسيحية والإسلام، كان موطناً لكريم المعتقدات الإفريقية وهي أقدم الأديان فيه. وبعد دخول الإسلام انتشر التصوف الإسلامي انتشاراً واسعاً منذ قيام سلطنة الفونج (1504م-1821م)، الذي تبعه قيام مملكة تقلي (1530م-1821م)، وسلطنة الفور (1650م-1916م)، ومملكة المسبعات (1660م-1750م) (يوسف: 2008م. ص 148). وظلت الصوفية مكوناً جوهرياً في التكوين الوجداني والفكري للفرد وفي المجتمع والثقافة. تبع ذلك ظهور ظاهرة ادعاء النبوة واستمرارها. إن عدم توقف الأنبياء من الإعلان عن أنفسهم وعن دعواتهم حتى اليوم، يحمل الكثير من الدلالات والمضامين، ويكشف عن طبيعة العلاقة بالدين، كما ترتبت عليها الكثير من النتائج. ولهذا، فإن ظاهرة ادعاء النبوة، التي ربما فاق السودان فيها، من حيث عدد دعاة النبوة، كل الدول التي تدين بالإسلام في العالم، ظاهرة تحتاج لمزيد من الدراسة والتفحص.ولهذا فإن هذا المقال بمثابة مدخل لحوار ودعوة لدراسة ظاهرة ادعاء النبوة وتفحصها بمداخل بحثية مختلفة تاريخية ونفسية واجتماعية… إلخ. إن مسألة ادعاء النبوة، مسألة تدين، وهي بهذا ذات جذور أبعد من مملكة الفونج وقبل دخول الإسلام في السودان.
الحكماء وإرث الحق الإلهي
لقد مر المزاج الديني للسودانيين بتطورات وتشكُّلات وأحوال متنوعة. وغني عن القول أنها تطورات متداخلة في حقبها وفي تأثيراتها، كما أن التطورات فيها تغذي بعضها بعضا. فقد بدأ إنسان وادي النيل يتعرف على معالم الألوهية. في صورتها الساذجة في العصور الحجرية، مثله مثل سكان العالم القديم. هنا لابد من الإشارة لدراسة الأستاذ على أحمد إبراهيم، والتي نال بها درجة الماجستير عام 1999م بإشراف الدكتور خضر آدم عيسى، في قسم التاريخ بكلية التربية بجامعة الخرطوم، وكانت الرسالة بعنوان: مظاهر التوحيد في العقائد الدينية الوثنية في وادي النيل (مصر والسودان الشمالي). تناول الأستاذ علي، الأستاذ الجامعي الآن بجامعة النيل الأزرق بالدمازين، بروز مظاهر التوحيد في العقائد الدينية الوثنية في وادي النيل الأدني والأوسط، مصر والسودان الشمالي، وتتبع تطور مفهوم الألوهية مع تطور إنسان وادي النيل، منذ عصور ما قبل التاريخ حتى سقوط مملكة مروي. وقف الأستاذ علي عند اعتقاد إنسان وادي النيل في الطبيعة وعبادته لمظاهرها عبادة الأرواح وممارسته للعقائد الطوطمية والفتشية والطقوس السحرية. ومع التطور حيث معرفة الزراعة والكتابة والحكم المركزي برز مفهوم الألوهية المشخصة، ورمز لها ببعض الأشكال الحيوانية والإنسانية التي تشير إلى أصولها الطوطمية والفتشية. ويضيف الأستاذ علي في خلاصة بحثه قائلاً: “في هذه المرحلة بدأ الانتقال من آلهة القبيلة والآلهة المحلية لإله الدولة، دولة الاتحاد، حيث تلاشت أو اندمجت أو امتثلت آلهة الأقاليم المنهزمة لاله الإقليم المنتصر. ثم برز في عصر الدولة القديمة والوسطى، برز مقام إله الدولة، والإله الأكبر بصورة حاسمة. وقد تصارع على هذا المقام إله وادي النيل الكبرى (ست) و (أوزيريس) و (حورس) و (رع) و(بتاح) و (آمون). وفي عصر الإمبراطورية الحديثة احتل الإله آمون مقام الإله الأكبر دون منازع، وخرج من دائرة القومية إلى دائرة الشمولية عندما توسع نفوذه وشمل بلاد النوبة وسوريا وجزءاً من بلاد الرافدين، بعد فتوحات تحتمس الثالث. في هذه الفترة وصل إنسان وادي النيل إلى التوحيد البدائي (شبه الخالص) حيث كان يؤمن إنسان وادي النيل بوجود إله أعظم خلق الآلهة الأخرى كما خلق الناس والأحياء والأشياء. ومع مجىء امنحتب الثالث بلغت الإمبراطوية قمة مجدها، ولما جاء ابنه (أخناتون) جاء بالديانة الإخناتونية كثمرة لذلك الإزدهار وفتح مفهوم الألوهية على العالمية، وجرد إلهه من التجسيد وحرره من الأشكال الحيوانية والإنسانية ورمز له بقرص الشمس، آية النور لتدل عليه، ووصفه بأنه الإله (الواحد الأحد) حسب ما جاء في نشيد أتون الكبير، وبهذا يكون إنسان وادي النيل قد انتقل من التوحيد البدائي إلى التوحيد الخالص. ويخلص الأستاذ علي إلى أنه طرحت المدارس اللاهوتية القديمة في وادي النيل نظريات عن الخلق، مثل الخلق بالكلمة مماثلاً لما جاء في الأديان الكتابية لاحقاً، ووضعت تصوراً للحياة الأخرى ارتضته تلك الأديان بعد ما صححته ثم جعلته من شروط الإيمان بها مثل الإيمان باليوم الآخر وبالحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، فضلاً عن الشعائر مثل الصلوات والأدعية والتعاويذ والحج والأضاحي والمعابد. كذلك ظهر في هذه الفترة عدد من الحكماء قالوا ما هو شبيه بمواعظ الأنبياء والرسل. واستنتج الباحث على أحمد إبراهيم أن الله هدى إليه العقول من خلال تجاربها، وإن الأنبياء والرسل لم يجيئوا ليخبروا الناس بأن لهم خالقاً، وإنما جاءوا ليصححوا تصورهم عن الخالق وعقيدتهم فيه، ويعلمونهم الطريق الأمثل لمعرفته والصفات المثلى التي تليق به.
الشاهد أن الدين والديانات والتدين ليست بالأمور الجديدة على شعوب سودان وادي النيل، كما أن علاقة الدين في سودان وادي النيل وارتباطه بتنظيم الحياة والتغيير والحكم والحاكم ليس بالأمر الجديد كذلك. ففي عهد مملكة مروي كان الملوك يحكمون بالحق الإلهي(تاج السر: 2008م. ص 84) والملكية المقدسة. كانت القدسية مستمدة من عقيدة الكوشيين في معبودهم الأول، ومُعطي الملكية الإله آمون، وهو كبير الآلهة (ملك الآلهة) عند الكوشيين (مروي)، ثم أشركوا “أبادماك” معه في تلك المكانة في القرون الأخيرة من عمر الدولة المروية (عمر: 2006م. ص 120).كان (أبادماك) أعظم الآلهة المحلية آثاراً وقد عرف بالاسم المروي (بدمكاك/ أبمك/ أبرمك/ أبيدماك)، وهو الإله الذي رمزوا له بتماثيل الأسد وصوره، وبالشكل المركب من جسم إنسان ورأس أسد (عمر: 2006م. ص 128). (يرجح عمر حاج الزاكي أن الإله آمون في الأصل معبود محلي (سوداني) ثم أخذه المصريون وطوروا عبادته وعاد للسودان معهم فأقبلوا على عبادته لمعرفتهم السابقة به) (عمر: 2006م. ص 126).
تكييف المزاج الديني: من المدينة المنورة إلى القاهرة
شهد السودان دخول الديانة المسيحية وازدهارها في فترة الممالك النوبية الثلاثة. وفي فترة سلطنة الفونج(1504م-1821م) اصبحت “الصوفية” مركزية الاستقطاب والولاءات، كان من أهم منجزات المنهج الصوفي “سعيه تحت راية الإسلام لإضعاف العصبية العرقية والولاء القبلي … وقد أسهمت الطرق الصوفية بسبب غياب حكومة مركزية قوية في تكوين الأطر الاجتماعية والدينية بين الشعوب السودانية في كنف الإسلام” (يوسف: 2008م. ص 188). وفي واقع الأمر أن ما حدث من انتقال في التمحور حول شيخ القبلية إلى التمحور حول شيخ الطريقة، كان نتاجاً طبيعياً لفعل وفعالية المنهج في سعيه لترفيع الناس عن الولاء من شيخ القبيلة إلى شيخ الطريقة. اتجه السودان، كما يقول محمد عمر بشير، في الفترة السنارية بنظره إلى الشرق أي صوب الحجاز والجزيرة العربية أكثر من اتجاهه صوب مصر، وذلك أمر طبيعي إذ كانت مكة والمدينة تمثلان مركز الوحي الديني والروحي أكثر من القاهرة (محمد عمر بشير: ص 15). وعلى الرغم من هجرة بعض السودانيين إلى الأزهر الشريف للاستزاده من معارفه الإسلامية، واهتمام العلماء السودانيين بتحفيظ القرآن الكريم وتفسير ونشر الفقه خاصة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ومختصر خليل بن إسحاق والتوحيد والحديث والسيرة وعلوم اللغة العربية. إلا أن هذه الثقافة الفقهية … لم تستهوِ كل السودانيين، إذ فضل عامة الناس الانخراط في سلك الطرق الصوفية… وكان انتشار الإسلام على أيدي مشايخ الطرق الصوفية أوسع نطاقاً فأحبهم العامة والخاصة… وقد دفع هذا الوضع الفقهاء ليترسموا خطى رجال التصوف (يوسف: 2008م. ص 187-188). ويرى الأستاذ محمد الواثق:أن التصوف “وتصوف “الفقرا” بوجه أخص كاد يقوم مقام الدين نفسه في الفترة السنارية، ومن ثم يشكل المزاج الديني للسودانيين” (محمد الواثق: 2009م. ص 15). وكان من أهم سمات المنهج الصوفي تقبله للتنوع، يقول فرانسيس دينق: “الإسلام الصوفي، مثل المعتقدات والتقاليد الأفريقية، فهو أكثر مرونة في تقبله للتنوع في التعبير الفني والإفساح للطاقة الفنية مقارناً بالإسلام الفقهي الرسمي” (فرانسيس: 1999م. ص 60). جاء الإسلام الفقهي الرسمي في فترة التركي/ المصري (1821م-1885م). كما بدأ معه اهتمام الإرساليات المسيحية بالسودان، كان مجيء الآباء الكاثوليك- مثل دانيال كمبوني- الذين نشروا الكنائس في شمال السودان، وانتشرت المسيحية في جنوبه. ثم جاءت المهدية التي ألغت المذاهب والطرق الصوفية واعتبرت الانتظام في سلك المهدية هو السبيل الوحيد للخلاص (عبداللطيف: 1998م. ص 29). ثم جاء الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري عام 1898م، ومنذ الوهلة الأولى كما يرى الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م): عمل، (الاستعمار البريطاني) بعد تجربته مع الثورة المهدية، على تقوية علماء الفقه على حساب المتصوفة. وسعى إلى تقليص نفوذ قادة الطرق الصوفية (محمد أبو القاسم: 1996م. ص 98-99).الشاهد أن السودان حينما نال استقلاله، مرت شعوبه بتقلبات في المزاج الديني. وكان يعيش تنوعاً دينياً قوامه الإسلام، والمسيحية وكريم المعتقدات الأفريقية. وكل دين من هذه الأديان متنوع في داخله بالعديد من الطوائف والطرق.
البريطانيون وادعاء النبوة ومكانة الدين في نفوس أهل البلاد
هل يعبر ادعاء النبوة عن تطرف ديني كامن في عمق بسيط تحت السطح، كما عبر أحد البريطانيين؟
كانت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أكثر الفترات التي ظهر فيها ادعاء النبوة. ففي الفترة من 1899م إلى 1918م، ظهر عدد من الحركات الدينية التي تعبر عن رفضها للاستعمار البريطاني/ المصري (1898م-1956م). وقد وردت الإشارة لذلك عند عدد من الباحثين والمؤرخين والكتاب منهم: محمد عمر بشير(1926م-1993م)، في كتابه:تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900م-1969م، وأحمد إبراهيم دياب، في كتابه:المقاومة للإدارة البريطانية (1900م-1924م)، ومحمد سعيد القدَّال(1935م-2008م)،تاريخ السودان الحديث 1820م-1955م، وكمال الجزولي، في كتابه:إنتليجنسيا نبات الظل: باب في نقد الذات الجمعي، وجون فولJohn O. voll في دراسته: “أبو جميزة: هل هو مسيلمة المهدي؟ التي نشرت ضمن كتاب: الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية. مثلت الحركات الدينية شكلاً من أشكال المعارضة للحكم البريطاني. وينطلق أغلب قادة تلك الحركات من ادعاء النبي عيسى أو المهدي المنتظر. يرى محمد عمر بشير الذي أورد نماذج من الحركات الدينية بقيادة بعض الذين ادعوا النبوة خلال الفترة من عام 1900م إلى عام 1915م، يرى محمد عمر بشير إن ادعاء النبوة، يعود إلى ارتباط معارضة الاستعمار الإنجليزي بالدين، ومفاهيم نزول النبي عيسي (محمد عمر بشير: ص. 70). ويرى المؤرخ محمد سعيد القدَّال: أن تلك الحركات الدينية توضح أن روح المهدية لم تنطفىء تماماً رغم الهزيمة. كما توضح مكانة الدين في نفوس أهل البلاد. وأما دعوة النبي عيسى فهي امتداد للحركات الألفية التي شهدتها مناطق مختلفة من العالم الإسلامي” (القدال: 2002م. ص 409). ويضيف القدال قائلاً: “وتقول الدعوة الألفية إنه قبل نهاية العالم سيأتي الدجال، ثم يعقبه الظهور الثاني للنبي عيسى الذي يقتل الدجال. وبعد ذلك يتحول العالم كله إلى الإسلام”( نفسه: ص 409). وعن علاقة ادعاء النبوة والمهدية بالدين في نفوس الناس، كتب القدَّال قائلاً: “وتبرز الدعوتان المهدية والألفية دور الدين في نفوس الناس، باعتباره الأفق الوحيد المتاح أمامهم حينئذ، ويمكنهم أن يشيموا فيه الخلاص”( نفسه: ص 409). ويرى الأستاذ كمال الجزولي أنه: “مهما يكن من أمر، فإن (حركات النبي عيسى) تمثل، في أكثر التحليلات سداداً، ملمحاً مهماً من ملامح المرحلة الأولى (للحركة الوطنية)، أو، على أقل تقدير، شكلاً متميِّزاً من أشكال (المقاومة الأوليَّة) للاستعمار…” (كمال: 2008م. ص 101-103).
وصف الأستاذ أحمد خير المحامي (حوالي 1905م-1995م) تلك الحركات الدينية، في كتابه: كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان. وانتقد القدَّال وصف أحمد خير قائلاً إنه: وصف لا يخلو من إجحاف. إن فشل تلك الحركات أفرز الحاجة إلى بدائل أخرى تتولى توجيه وقيادة النشاط السياسي (القدال: 2002م. ص 413). كان أحمد خير المحامي قد وصف قيادات تلك الحركات قائلاً بأنها قيادات: “ضاربة في غياهب الجهل وتائهة في سراديب التعصب… وهي التي انفردت بتعكير صفو الأمن بين الفينة والأخرى، وفي جهات مختلفة تحت اسم الثورة الدينية، تزهق فيها الأرواح ويسفك الكثير من الجهد والمال، قبل أن يلقى قادتها حتفهم، في حومة الوغى أو على خشب المشانق، دون كبير عطف أو اهتمام من الرأي العام (أحمد خير: 2002م. ص 13).
كتب جون فولJohn O. voll في صدر دراسته عن حركة أبو جميزة في غرب السودان، والتي كانت بعنوان: “أبو جميزة: هل هو مسيلمة المهدي؟ وقد صدرت الدراسة ضمن كتاب: الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية(فول: 2000م. ص 157-178)، كتب جون فول قائلاً: “وكان الاعتقاد التقليدي أنه بعد ظهور “المهدي” وهزيمته الأولية، سوف يأتي “نبي الله عيسى” وقد فتح هذا المعتقد الطريق أمام عدد من المتحمسين دينياً وأقلية من اتباع “المهدي” الذين كرسوا أنفسهم للعبادة كي يطيحوا بالحكومة الكافرة باستخدام القوة. وباستثناء سنوات الحرب، كان من الصعب مرور عام خلال الجيل الأول من الحكم المشترك، (الحكم الثنائي الإنجليزي المصري) بدون هبة “مهدية”. وعن موقف البريطانيين ورؤيتهم وتحليلهم لظاهرة ادعاء النبوة. كتب القدَّال قائلاً (القدال: 2002م. ص 409): “وكان البريطانيون مدركين لذلك الدور الديني. فقال البرفيسور ولفرد سميث،إن احتلال مسيحي لدولة مسلمة لا يعني أن سيادتهم قد فقدت وأن النظام السياسي قد تحطم، وإنما يعني أن التاريخ نفسه قد انحرف عن مجراه وأن نسق الكون قد اختل. وقد عبر لورد ملنر عن تخوف الإنجليز من الحركات ذات الطابع الديني، حيث كتب في تقرير له يقول: إن امكانيات التطرف الديني كانت في عمق بسيط تحت السطح. وكتب اللورد ملنر يقول إن خضوع المسلم لحاكم مسيحي يعارض روح الإسلامي نفسها. وأضاف القدَّال قائلاً: وعبر أحد البريطانيين عن تخوفه من الحركات الدينية وإمكانية انفجارها في السودان، حيث إن التطرف الديني كامن في عمق بسيط تحت السطح (نفسه. ص 409). وكان ونجت قد قال إن المهدية لم تمت تماماً في السودان، لقد خنقت ولكن ماتزال تمتلك الكثير من الحيوية، وسوف تظهر على السطح كلما سنحت لها الفرصة. ويرى ونجت أن هذا ليس بمستغرب لأن غالبية الجيل الحالي قد ولد وترعرع في العقيدة المهدوية. لذلك أكد كتشنر على مديري المديريات عام 1899م بأن يقهروا فوراً وبعنف أي تمرد أو عصيان له توجهات دينية. وجاء ونجت ليقول: “يتعين علينا ألا نتراخى لحظة في احتياطاتنا ضد انتشار مثل هذه الحركات. والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك بإمكانياتنا المحدودة أن نسحقها في بدايتها بلا رحمة”(نفسه. ص 409). نلتقي في الحلقة القادمة، والتي سأتناول فيها محور: “الخريطة الزمانية والمكانية للأنبياء الجدد في السودان: جون فول و”مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”.
الخريطة الزمانية والمكانية للأنبياء الجدد في السودان
جون فول و”مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”
من المهم الإشارة إلى أن هذا الدراسة تُعنى بمن أعلن عن نفسه بأنه نبي، ولا تعطي اعتباراً لمن شاع عنه أنه نبي. كان جون فول John O. voll قد درس حركة أبو جميزة، الذي أعلن عن نفسه بأنه نبي. وقد ظهرت حركته في غرب السودان، كما وردت الإشارة آنفاً، ضمن ظاهرة، “الأنبياء الجدد” كما وسمهم فول. وقد شاعت اخبارهم في عصر أبو جميزة. كتب فول قائلاً: إن الحركة لم تكن حالة معزولة، ففي أقصى الغرب من منطقته رفع عدد من الزعماء الدينين لواء المقاومة الدينية. وأضاف جون فول قائلاً: “وفي دراسة الثورات الدينية ضد المهدية خلال فترة الخليفة عبدالله يقرر كاتب إحدى الدراسات العامة أنه بمعرفة عدد من أدعوا النبوة في (دار تامة) يجب أن نطلق عليها (مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة). ولم تكن ظاهرة الزعماء الذين يسعون إلى أن يكونوا من أنبياء الله (عيسى) أو آخرين من الشخصيات المؤمنة البارزة قاصرة على غربي دار فور، فقد ظهر كثيرون من أمثال هؤلاء الناس خلال فترة المهدية وأيضاً في بواكير القرن العشرين في مناطق مختلفة كثيرة من السودان. نظر جون فول لشخصية أبو جميزة الذي ظهر في غربي دار فور وذاعت شهرته عام 1888م، بعد ثلاث سنوات من وفاة المهدي، وشخصية مسيلمة الذي أدعى النبوة، ووصف بالنبي الكذاب، في القرن الأول الهجري، ورأى جون فول أن التشابه العام في وضع “مسيلمة” و “أبو جميزة” يجعل من المقارنة بينهما أمراً مغرياً. ثم طرح جون فول عدة أسئلة منها: هل كان أبو جميزة هو مسيلمة المهدي أم لا؟ قدم جون فول مقاربته بين أبوجميزة ومسيلمة، باعتبار أنها مقاربة جديرة بالبحث في بُعدها السوداني لأنها يمكن أن تزودنا بمنظور لفهم أبعد مدى حول مغزى وطبيعة الثورات الدينية في سودان القرن التاسع عشر والعشرين. كما يمكن أن تزودنا أيضاً بملاحظات مفيدة في المجال الأوسع عن دراسة حركة التجديد الإسلامي على وجه الخصوص، وكذلك التجديد في الأعراف الدينية بوجه عام. كان أبو جميزة قد توفي فجأة بالجدري. ختم جون فول دراسته قائلاً: “ويمكن النظر إلى حركة كل من أبوجميزة ومسيلمة باعتبارهما حالة لدراسة حركات الإحياء الديني التي أخفقت. ومهما يكن، فعند فحص تاريخيهما، يصبح في الإمكان تصنيف ديناميكيات أوسع في التاريخ الاجتماعي الديني. وبتمثيل اتجاه أكثر محلية في معارضة اتجاه أكثر شمولاً، وربما كان (أبوجميزة) هو (مسيلمة المهدي).
يقول محمد عمر بشير:على الرغم من أن المهدية قد هزمت في المواقع الحربية وحرمت أفكارها إلا أن أيديولوجيتها ظلت قائمة ومستمرة. وجذب هذا الادعاء الفريد بالنبوة انتباه القبائل. وبدا أملاً لإزالة سخطها وذلك بالادعاء بأنه بعد انهزام المهدية يأتي المسيح من السماء ليقود المؤمنين الانصار ضد أعداء المسيحية الذين يعتبر البريطانيون من بينهم. ومن ثم يعود من جديد العصر الإسلامي السعيد. إن أول مظاهر المهدية جرت في عام 1900م بأم درمان- عاصمة المهدية ومعسكر حروبها- (محمد عمر بشير. ص 70-71). يقول القدَّال: ظهرت حركة على عبدالكريم،وهو أخ محمد عبدالكريم القائد الشهير ومن أقرباء المهدي. فقد أعلن دعوة دينية وشكل اتباعه جمعية. رأت الحكومة في دعوته نذير خطر عليها (القدال: 2002م. ص 410). ورأت الجماعة أن نبي الله عيسى ظهر بينهم، يقول البروفيسور أحمد إبراهيم دياب:” وقد نادت تلك الجمعية بأن نبي الله عيسى قد ظهر بينهم ممثلاً في زعيمهم على عبدالكريم (دياب: 2006م. ص 21). تم القبض على الزعيم على عبدالكريم مع تسعة من الأنصار. استناداً على اتهامهم بالدعوة للمهدية وحض الناس على التمرد. ولما استجوب على عبدالكريم واتباعه لم ينكروا اعتقادهم في المهدي وفي توقع نزول النبي عيسى لإنقاذ السودان والعالم الإسلامي قاطبة. واعترفوا بأنه أوحي إليهم بشىء من ذلك. فقد كان عليهم الوقوف في مواجهة الحكومة لأن ذلك يكون إلهاماً قدسياً لا يرد (محمد عمر بشير. ص 70-71). أطلقت جماعة ود عبدالكريم على نفسها (عباد الله). وكان لها خمس شعائر للإيمان (محمد عمر بشير. ص 70-71) هي:
1. كل ما يعمل بالأقوال أو الأفعال يكون صحيحاً إذ أنه (بفعل الله).
2. إن الله ساهر على كل خلقة وأنه لن يتخلى عن من يؤمن به.
3. كل ما يحدث من خير أو شر فهو من إرادة الله.
4. لنسبح بحمدالله عند وقوع الشر أو الخير. وعلينا أن نسبح باسم الله.
5. كل الأفعال تعزى إلى إلهام من الله.
شكل الحاكم العام مجلساً لمحاكمة علي عبدالكريم واتباعه، وكان مجلس المحاكمة برئاسة نعوم شقير وعضوية ندا قاضي أم درمان والطيب أحمد هاشم قاضي الخرطوم ومحمد شريف نورالدائم (باشا) ومجموعة من رجال الدين (القدال: 2002م. ص 410). وبالنظر للبند الخامس المتعلق بالوحي الإلهي يكون من الأوفق أن يبعد عدد من قادة الجماعة- الأرجح أن عددهم سبع وعشرون- من أم درمان بأسرع فرصة ممكنة (محمد عمر بشير: ص 74). حكمت المحكمة على علي عبدالكريم بالنفي إلى وادي حلفا، وعلى ستة عشر شخصاً من أتباعه بالسجن. وبقى الرجل في المنفى حتى وفاته عام 1941م (القدال: 2002م. ص 410). استمر النشاط السري لهذه الجماعة حتى عام 1920م، حين أدانها السيد عبدالرحمن المهدي واصفاً إياها بأنها حركة ملحدة (دياب: 2006م. ص 21).
وفي عام 1902م، ظهر في جنوب دارفور الفكي محمد الحرين، وهو من البرنو. وادعى أنه المهدي، فاعتقل وأعدم (محمد عمر بشير. ص 24؛ القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1903م، عاد رجل يدعى محمد الأمين، وهو جعلي، من أداء فريضة الحج، وذهب إلى جنوب دارفور. وفي تقلي أعلن أنه من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه نبي الله عيسى. فأرسلت الحكومة قوة عسكرية وحاصرته واستسلم دون مقاومة. لكن القوة أحرقت القرية وصادرت ممتلكاتها، واقتادت الرجل إلى الأبيض. فساد المدينة توتر خشيت الحكومة من تطوره. كما نما إلى علم الحكومة أن بعض قبائل كردفان قد تنضم إليه إذا هرب. فأعدمته في مكان عام دون محاكمة ودون أن توجه له تهمة. ثم أعلنت الحكومة كذباً أن الإعدام تم بعد محاكمة عاجلة اقتضتها الضرورة العسكرية (القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1904م أدعى محمد ود آدم الدنقلاوي في سنار أنه النبي عيسى. وأعلن أنه يتلقى الوحي (محمد عمر بشير. ص 72) ، فأرسلت عليه الحكومة قوة عسكرية، فصادمها وقُتل تسعة من جماعته، كما قتل مأمور سنجه. ثم اعتقل وأعدم ومعه أثنان من اتباعه(القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1904م أعلن محمود آدم في سنجه، بمديرية الفونج، أنه نبى الله عيسى، فقتل بعد مقاومة عنيفة من اتباعه (دياب: 2006م. ص 23).وفي عام 1906م أدعى سليمان ود البشير، الذي كان يعمل خياطاً في واد مدني، أنه نبي الله عيسى. ولكن سرعان ما اعتقل (القدال: 2002م. ص 411). وفي ديسمبر 1906م أدعى موسى أحمد البرقاوي في كسلا أنه نبي الله عيسى واعتقل (القدال: 2002م. ص 411). وفي العام التالي أدعى أثنان أنهما أنبياء الله عيسى وتم نفيهما (القدال: 2002م. ص 411). وفي عام 1907م قبض على رجل من أهل برقو بالقضارف، ادعى أنه نبي الله عيسى، ولكنه لم يبشر بدعوته ولم ينضوِ أناس تحت لوائه (دياب: 2006م. ص 23). كما ادعى نفس الدعوة رجل في مدني غير أن دعوته لم تدم طويلاً وقبض عليه (دياب: 2006م. ص 23). وفي عام 1909م ادعى عبدالله فضل في جبال النوبة أنه المهدي، فاعتقل وسجن في الخرطوم. ثم أثبت التقرير الطبي أنه مختل العقل (القدال: 2002م. ص 412). وفي عام 1910م ظهر في سنار الفكي نجم الدين، وأخذ يثير الأهالي مدعياً أنه النبي عيسى. فاعتقل واعدم. وفي عام 1910م أعلن الشريف مختار ود الشريف هاشم من قبيلة الشنابلة أنه النبي عيسى (محمد عمر بشير. ص 74). تم القبض عليه وأعدم. وفي عام 1910م ظهر في النيل الأبيض الفكي مدني مدعياً أنه نبي الله عيسى فاعتقل (القدال: 2002م. ص 412). وفي عام 1912م أعلن الفكي عكاشة أحمد، وهو من أتباع عبدالقادر ود حبوبة، أنه المهدي وجمع حوله عدداً من الأتباع. فأرسلت عليه الحكومة قوة فصادمها وقتل في الصدام. وفي عام 1915م أعلن أحمد عمر الفلاتي، وهو من سكوتو، أنه نبي الله عيسى، وبدأ دعوته في دارفور. فاعتقل وأعدم (القدال: 2002م. ص 412).وفي عام 1918م بشرق السودان كانت حركة محمد الحاج سانبو في كسلا الذي أدعى أنه المهدي، جمع بعض الاتباع وهاجم قلعة كسلا (محمد عمر بشير. ص 81؛ القدال: 2002م. ص 344). وفي عام 1919م أدعى محمد السيد حامد أنه النبي عيسى بمديرية الفونج. ولكن ما لبث أن القى القبض عليه وأعدم شنقاً (محمد عمر بشير. ص 81). وفي عام 1921م ظهر في نيالا في جنوب دارفور الفكي عبدالله السحيني مدعياً أنه نبي الله عيسى. وأعلن الجهاد ضد الحكومة. وتجمع حوله الاتباع فشن هجوماً على مركز نيالا وقتل المفتش البريطاني والضابط وكتبة المركز. أرسلت الحكومة قوة عسكرية بقيادة الضابط بلال رزق ومعه خمسون جندياً. فاعتقل السحيني وأعدم في ساحة السوق، وواصلت الحكومة ملاحقة اتباعه (القدال: 2002م. ص 412-413).نلتقي في الحقلة القادمة، والتي سأقف فيها على بعض الذين ادعوا النبوة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى تاريخ اليوم.
للأمر جذور أبعد
من المهم الإشارة، كما ورد في الحلقات السابقة، إلى أن هذا الدراسة تُعنى بمن أعلن عن نفسه بأنه نبي، ولا تعطي الدراسة اعتباراً لمن شاع عنه أنه نبي.الشاهد أنه برغم أن بعض الدارسين، كما ورد آنفاً، أرجع ظاهرة ادعاء النبوة إلى شيوع حركات النبي عيسى، وارتباطها بالنضال ضد المستعمر البريطاني خاصة بعد نجاح نموذج الثورة المهدية، إلا أن وجود الظاهرة قبل الاستعمار البريطاني، واستمرارها بعد ابتعادنا عن مرحلة شيوع حركات النبي عيسى، وحتى يومنا هذا، يحمل الكثير من الدلالات والمضامين. فالفكرة في السودان (كما هو معلوم، كانت بلاد السودان، وهو الاسم الذي اطلقه الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين، تشمل كل المنطقة جنوب الصحراء الكبرى، وأحياناً كل إفريقيا)، كما المهدية نفسها، ترجع إلى غرب أفريقيا، فقد راجت الفكرة رواجاً كبيراً في غرب أفريقيا وبالذات في القرن الثاني عشر الذي شهد حركة الموحدين في الريف المراكشي على يدي المصلح الأمازيغي المهدي بن تومرت (المنقذ المنتظر). ولفكرة الانتظار والمخلص… إلخ
حضور كبير لدى الشيعة. ومعلوم أن ثمة تسربات شيعية قوية في بدايات الأصل الموحدي. وفكرة الرجوع أو الظهور موجودة في أيضاً في الديانتين اليهودية والمسيحية ومقترنة يشخص النبي عيسى بن مريم. على أن الربط الشرطي بين ظهور المهدي ورجعة المسيح هي عقيدة سنية محضة. ولها جذور في سنن ابن ماجه والترمذي وغيرهما من كتب الحديث. (ي. أ. بيلاييف: 1973م؛ محمد أركون ولوى غارديه: 1983م؛ أحمد جلي: 1988م). إن تأثير غرب أفريقيا على السودان تأثير كبير كما الحال بالنسبة لتأثير مراكش على غرب أفريقيا. ولهذا فالأمر لا ينفصل عن ظهور حركة الموحدين. الشاهد أن فكرة ادعاء النبوة تعبر في شكل من أشكالها عن شدة ارتباط السودانيين بالدين. وتكشف عن أن الدين في السودان ظل وما يزال هو المحرك للحياة والمحدث للتغيير. فقضايا السودان الكبرى كلها تتصل بشكل مباشر بالدين. لقد ظل السودان موطناً صالحاً لادعاء النبوة، فقد تجاوز العدد الثلاثين نبياً، ومع استمرار البحث فإن العدد سيكون أكثر من ذلك. فالظاهرة لم تتوقف وظلت مستمرة حتى تاريخ اليوم، والشواهد على ذلك كثيرة. لقد قدم كتاب:الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان(محمد بن ضيف الله: 1992م)، للشيخ محمد النور بن ضيف الله(1728م-1810م)، والذي حققه البروفيسور يوسف فضل حسن، قدم الكتاب العديد من قصص ادعاء النبوة وحالات الجذب الإلهي والشطح والجذب في حب الله ورسوله، والكرامات والغرق،… إلخ، من هذه القصص قصة الشيخ محمد الهميم، (محمد بن ضيف الله: 1992م. ص 212، 316)، وقصة ادعاء الشيخ حمد النحلان بن محمد البديري المشهور بابن الترابي، بأنه المهدي في مكة (محمد بن ضيف الله: 1992م. ص 165)، وغيرها من القصص.
في يوم 29 مارس 1951م أجرى الأستاذ صالح بان النقا حواراً مع الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري آنئذ، وسأله من ضمن الأسئلة عن اعتقاد أبو بكر خاطر بأنه نبي ورسول، والذي يعتقد كذلك بأن الأستاذ محمود نبي، سأل صالح بان النقا قائلاً للأستاذ محمود: “يعتقد العم خاطر أنه نبي ورسول، وأن الآيات القرآنية لا تؤكد عدم وجود الأنبياء بعد محمد كما أنه يعتقد أنك نبي، وفي كلا الاعتقادين لدينا شك وشكوك”. أجاب الأستاذ محمود قائلاً: “لا نبي بعد محمد من لدن بعثه إلى قيام الساعة”. وأضاف الأستاذ محمود حينما سأله صالح بان النقا عن خلاصة ما يعتقده بشأن العم خاطر، أضاف الأستاذ محمود قائلاً: “وخلاصة ما أعتقده أن الأخ أبا بكر خاطر كسائر العباد عبد مسير لا يملك من أمر نفسه شيئا وقد أراد الله تعالي به فأقامه في ما أرجوه له وهو عند نفسه صادق لأنه لا يقول إلا ما يري ولكنه ليس عند الله بصادق لأن الذي يراه مزيج من الحق والباطل والله أعلم”. (للمزيد أنظر:”ساعة مع الأستاذ محمود محمد طه ، رئيس الحزب الجمهوري سابقاً”، حوار صالح بان النقا، موقع الفكرة الجمهورية [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] وفي عام 1968م أعلن أحدهم أنه المهدي المنتظر. جاء الخبر في صدر صحيفة الرأي العام، العدد 8168، الصادرة في يوم السبت 18 مايو 1968م، يقول عنوان الخبر: “يدعي أنه المهدي المنتظر”، وجاء في تفصيل الخبر: “ادعى طالب بمنطقة الجزيرة أبا أنه المهدي المنتظر وأعلن هذا على الملا، اعتقله البوليس ووضع بحراسة كوستي وبدأ التحقيق معه”. وكما ورد آنفاً فقد نشرت صحيفة الأحداث خبر الرجل الذي أعلن في الخرطوم أنه نبي وكان له اتباع في أغسطس من العام 2011م في العدد رقم: 1359. وفي يوم 14/2/2010م أورد موقع بوابة النيلين على الإنترنت، خبراً يقول: “ادعي شاب النبوة أمس بمسجد كلية التكنولوجيا بجامعة السودان عقب أدائه لصلاة الظهر. وقال شاهد العيان الطالب بالسنة الرابعة بكلية الآداب جامعة الخرطوم محمد حسين ميرغني لـ(حكايات)، أن مدعي النبوة أدي صلاة الظهر أمس ضمن المصلين بالصف الثاني وانبرى عقب الصلاة خطيباً في الناس وهو يحمل مصحفاً متحدثاً بأن الوحي قد هبط عليه وأنه يحمل رسالة جديدة الي المسلمين والمسيحيين علي السواء، وأن لديه رسالة كلف بإبلاغها الي المسلمين و(الخواجات).(موقع بوابة النيلين [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] وفي يوم 11 فبراير 2011م أوردت صحيفة كفر ووتر الإلكترونية، نقلاً عن صحيفة الانتباهة أن شخصاً اسمه سليمان أبو القاسم ادعى أنه عيسى ابن مريم. وقد وجّهت محكمة جنايات الأزهري برئاسة مولانا محمد الطيب تهمة الردة تحت المادة «126» من القانون الجنائي في مواجهة من ادّعى أنه النبي عيسى ابن مريم و«16» من أتباعه بعد فراغ المحكمة من استجواب المتهمين. وكان المتهمون قد أقروا عند استجوابهم بواسطة المحكمة بما نُسب إليهم من اتهام وأنهم أتباع للمتهم الأول سليمان أبو القاسم وأنه عيسى ابن مريم.وأنهم لا يؤدون صلاة الجمعة بالمسجد ويصلون بمنازلهم لأن إمام المسجد ليس من أتباع المتهم الأول، وأفاد المتهم الأول أمام المحكمة «سليمان أبو القاسم» بأنه عيسى ابن مريم. وفي عام 2012م أعلن أحد الشباب من أبناء الجزيرة على شبكة الإنترنت بأنه نبي. وهناك الكثير من الأنبياء مِنْ مَنْ لم يصل خبرهم للإعلام.
الشاهد أن استمرار الظاهرة يعبر عن ما هو أبعد من مفاهيم النبي عيسى ومفاهيم المهدي المنتظر، وإن ساعدت هذه المفاهيم على تفشي الظاهرة. يقول القدال: نحتاج لوقفة لدى تلك الحركات الدينية، لنستبين دوافعها والآثار التي خلفتها. فرغم جو الإرهاب الذي فرضه الحكم البريطاني، ظلت تلك الحركات تتفجر تباعاً. هل كان قادتها يدركون أن حركاتهم مقضي عليها بالفشل، وأنهم يقومون بمغامرة انتحارية إذا كان الأمر كذلك؟ فلماذا أقدموا عليها أم أنهم كانوا يتوقعون نجاح حركاتهم، غير مدركين للظروف الجديدة المحيطة بالبلاد وبتوازن القوى الجديد، كانت تلك الحركات تعبر عن رؤية مهدوية ضيقة، وعن رؤية ألفية أكثر ضيقاً، وفيها تقليد لا يخلو من جمود لحركة الإمام المهدي في القرن الماضي (19)، وكأنما حركته يمكن أن تتكرر مثلما تتكرر المسرحية. وهي تعبر عن ضعف الوعي الاجتماعي أمام التحديات التي يواجهها الناس (القدال: 2002م. ص 413). فما يزال ضيق الحياة وعنتها يغلفان حياة السواد الأعظم من أهل البلاد، دون أن يبصروا مخرجاً منها. فلم يبق أمامهم إلا اللجوء إلى “صاحب الوقت” أو المنقذ، الذي يأتيهم بقوى خارجة عن قدرتهم، فيركنوا إلى كنفه ويستكينوا إليه (القدال: 2002م. ص 413). وأضاف القدَّال قائلاً: “لم تمض تلك الحركات دون أن تترك بعض الآثار في مجرى الحركة السياسية السودانية. فهي رغم فشلها، حافظت على جذوة النضال مشتعلة بعد أن كاد الحكم البريطاني أن يطفىء وميضها برماد الغزو. ولكن فشلها كان أيضاً إعلاناً عن انتهاء دور الحركات الدينية في المسرح السياسي. فهي حركات تحمل الحنين إلى الماضي أكثر مما تحمل هموم الحاضر وأشواق المستقبل (القدال: 2002م. ص 413). نلتقي في الحلقة القادمة مع محور عنوانه: “الأنبياء والعرافون والطاقة الروحية وما وراء العقل”، إلى جانب خلاصات وخاتمة الدراسة.
الأنبياء والعرافون والطاقة الروحية وما وراء العقل
في تقديري أن ظاهرة ادعاء النبوة، والتي استمرت ولا تزال مستمرة، ما كان يمكن لها أن تتفشى لو لم تكن هناك بيئة صالحة وعوامل مساعدة، سواء من حيث الطاقة الروحية أو من حيث الإرث الحضاري أو من حيث الفهم الأوسع من ما يتداوله الناس اليوم عن مفهوم النبي. كذلك إن ظاهرة ادعاء النبوة تعبر عن حالة التدين ومدى تمكنه في نفوس شعوب السودان. فمن واقع الخريطة المكانية للذين أدعو النبوة، فإنهم كانوا من مختلف بقاع السودان: من دار فور وكسلا والقضارف وسنجه ووسط السودان، ودار تامة التي وصفها جون فول في دراسته، وقد وردت الإشارة إليها آنفاً، مستنداً على دراسة أخرى أشار إليها، قائلاً: إن(دار تامة) “مصنع إنتاج الأنبياء الكذبة”. تناول جون فولJohn O. voll في دراسته، آنفة الذكر: “أبو جميزة: هل هو مسيلمة المهدي؟ والتي نشرت ضمن كتاب: الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية، تناول إدعاء النبوة مستشهداً بابن خلدون، قائلاً: ” كما لاحظ أيضاً علماء الإسلام التقليديون انتشار ظاهرة الزعامة النبوية. فابن خلدون مثلاً كان يميز بين الأنبياء والعرافين. ومهما يكن، فهو يرى في تحليله أن العرافين الذين يعيشون في زمن أحد الأنبياء يدركون نفوذ النبي ويحاولون الاستحواذ على هذا النفوذ لحساب أنفسهم. فهو يقول في مقدمته: “العرافون المعاصرون لنبي من الأنبياء يدركون مصداقية هذا النبي ودلالة معجزاته… وما يمنع العرافين من التسليم بمصداقية هذا النبي ويدفعهم إلى إنكاره هو ببساطة رغبتهم الموجهة توجيهاً خاطئاً كي يكونوا هم أنفسهم أنبياء، وهذا ما يدفعهم إلى المعارضة الحاقدة. وهذا ما حدث لـمسيلمة. إن تعدد الساعين إلى النبوة في أوقات الشدة أمر معروف. من المعلوم، أن ابن خلدون خصص المقدمة الخامسة من مقدمته للحديث عن: “حقيقة النبوة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقةالكهانة ثم الرؤيا ثم شأن العرافين و غير ذلك من
نورالهادى- V.i.P
- احترام قوانين المنتدى :
عدد المساهمات : 4904
نقاط : 41033
تاريخ التسجيل : 11/05/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى