المناصير بلدي
الزائر الكريم مرحبا بك في منتدى المناصير بلدي
ان لم تكن مسجلا فيرجى الضغط على زر التسجيل وملء بياناتك لقبول عضويتك

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

المناصير بلدي
الزائر الكريم مرحبا بك في منتدى المناصير بلدي
ان لم تكن مسجلا فيرجى الضغط على زر التسجيل وملء بياناتك لقبول عضويتك
المناصير بلدي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

لمسة وفاء للشاعر الراحل عبدالله محمد خير ( ودعبدون )

اذهب الى الأسفل

لمسة وفاء للشاعر الراحل  عبدالله محمد خير ( ودعبدون ) Empty لمسة وفاء للشاعر الراحل عبدالله محمد خير ( ودعبدون )

مُساهمة من طرف نورالهادى الإثنين 23 سبتمبر 2013, 4:02 am

هذا الموضوع منقول وحاولت أنزله فى منتدى الشعراء ولقيت المنتدى يخص شعراء المناصير فقط فيا ريت ياريس خالد تضيف كلمة الأدب أو تحاول تعالج هذا المنتدى .بحيث نتمكن من الاطلاع على شعر الآخرين وأن شخصيا أعتبر عبدالله عبدالله محمد خير من أشعر شعراء الشمال .



محاولة للإجابة على السؤال المطروح من صحيفة ليبراسيون الفرنسية على نخبة من الكُتَّاب العالميين مفاده "لماذا نكتب؟"والذي ورد بسفر أستاذي (مجازاً) وزميلي بروفيسور أحمد أبوشوك عن شيخ العاشقين الراحل المقيم أستاذنا عبد الله محمد خير (رحمه الله) ، أحاول المشاركة في الرد بصورة قاصرةٍٍ في شكل سؤال هو : لماذا لا يكتب أمثال هؤلاء شعراءً ، مثل شاعرنا الراحل ، وأدباءً مثل أستاذنا أبوشوك ، طالما أن الشعر من نفس الرحمن مقتبس والشاعر الفذ بين الناس رحمن ؟
من منا يأبى أن يتنشق العطر والأنفاس الجميلة؟ وأجمِلْ بها من أنفاس طالما الرحمن مصدرها!
فلابد لأمثال عبد الله (رحمه الله) من الكتابة حتى يتميز عنا بأنه رحمن وحتى لا يدخل في زمرة وعداد "قد خاب من دساها" ، أي هذه الموهبة والعبقرية الشعرية اللتين لا يمكن اكتسابهما بالعلم والمعرفة وإن طغى أهل اللغة الفصيحة وتجبروا متوهمين احتكارهم لتبيان المشاعر طالما أنهم أهل اللغة الفصحى والفصيحة محاولين حرمان وتغييب أهل اللغة العامية من امتلاكهم لأنفاس الرحمن ، وذلك حسبما أشار إليه الأستاذ عبد الله (رحمه الله) في مقدمته في مجموعة "كلام في الحب والوطن" وهو ما طرحه بروفيسور على المك في مقدمته لمجموعة "أنا المعجب" : " ويظلمون الشعر العامي أولئك الذين يقولون عنه أنه لا يسمو ولا يتسامى للتعبير عما في النفس من خبايا وشجون ، ولعل ذلك قد جعل العامية محصورة فيما يسمى بشعر الغناء على الأقل، منذ منتصف العقد الثاني لهذا القرن ، وقبع ذلك الشعر الصادر بتلك اللغة في الإطار الذي حددته له دكتاتورية الكلمة الفصيحة ، تلك التي تمثل المتعلمين. وعلى قلة أولئك فإن سطوتهم كانت تكمن في علو أصواتهم ، وأكثرهم كان مقلداً تجد في ردائه العصر الأموي والعباسي، وسوادهم قنع بنماذج عصر الانحطاط الأدبي وما بارحها وما تمرد عليها" انتهى ص5و6 طبع بالرياض ، مطابع الازدهار الحديثة تاريخ 12/5/1406هـ.

فالدكتور أبوشوك كتب من منطلق الحزن على شاعرٍ (متخصص في السماحي/ السماحة) كتب لنفسه ولنا من منطلق حبه وعشقه للجمال الذي كان يتملكه من رأسه حتى أخمص قدميه ، حيث أقرَّ بذلك قائلاً:



لا برعي أنا ولاني ماحي أصلي متخصص في السماحي (الشيخ البرعي) (حاج الماحي)
عيوني بصيرة لماحي تصيد مابتخيب رماحي



ولكنه رغم هذا التخصص "التخصص في السماحي " ورغم جريان العشق والحب في جسمه وعقله وقلبه مجرى الدم من الإنسان كان ذا حب عذري صادق لا تشوبه شائبة وليس لديه غير كلماته ويراعه مصرحاً بذلك كثيراً:



يا بت عليك "زاد الشجون"
و"بوب مارلي" و"الحزن القديم"
اتمهلي لا تستهزي بي
عمك أنا وجدك كمان
لكن مصيبتي على العلي
بهوى الجمال
واهوي السبيب كل ماهو طال
وبهوى الصدير كل ما حضن رمان وشال
وبهوى البنات كل ما بقن شبه الغزال
ومافيش بلا الهوى بين إيدي


مؤكداً ذلك في موضع آخر:

غداً يا حلوتي ساراك تبتسمي
ولما اراك تبتسمي ستبتسمي
لست لديا شيئاً غير ما أمليه بالقلم
حبك ها هنا يجري مكان دمي
وهواك يدفعني وسوف أحطم الصنم



هكذا شكَّل الشاعر، إن لم يكن كل وجداننا ، فجل وجداننا ، وكلاهما (عبد الله وأبوشوك) أبدع في مجاله ، ولكن يصعب مجاراة لغة دكتور أبوشوك في العرض والشرح والتحليل والمتعة مثلما يصعب الإتيان ببيت شعر يشبه أبيات الراحل المقيم الأستاذ عبد الله (رحمه الله) التي تتصف ببساطة المفردة وسهولتها للشخص العادي كسهولة رؤيته للسماء دون جهدٍ ولكنه لا يستطيع الوصول إليها حيث أنها "استعصمت بالبعد عنا" ، فهي مفردات في غاية الصعوبة عند النظم تستمع بجمالها كاستمتاعك بجمال القمر وتحس بقربك منها كقربك من الثريا عند التمعن فيها ولكنك عندما ترجع البصر كرة واحدة تجد نفسك على الثرى والبون شاعٌ بين الثرى والثريا وهذا ما يميز الموهبة من الصناعة ويتجلى ذلك في الجناس (نوح/نواح/نواحي) الوارد في البيت التالي وغيره في قصائد كثيرة أخرى:


كفاي يا نوح من نواحي وأزاي من عدة نواحي



فهذا الشاعر المرهف المطبوع ، الذي وهبه الله ما لم نحظ به من خيال جامح ومقدرة لا تتوفر إلا لمن أوتي حظاً عظيماً "حل العقدة من اللسان" ، تملكه عشق وهيام نهكا قلبه وكادا أن ينحلا جسمه نحول ذاك الذي قال : "كفى بجسمي نحولاً لولا مخاطبتي إياك لم ترني" ، فعبقرية هذا الإنسان وعشقه وهيامه كسرا حاجز معرفته بفنون القراءة والكتابة وجعلاه يصرح بهما فخوراً:


يا زينوبة ابوك اصلو حالو برا
لو قاري العلم ولاهو زول خبره
مو زول غربة لكن الظروف جابرا



ويجيء فخره بعدم معرفته بفنون القراءة والكتابة لأن بنات شفاه لم تقل عن تلك التي جادت بها قرائح وشاعريه من تملكوا نواصي اللغة العربية مثل امرؤ القيس الذي وصف الليل في إحدى قصائده قائلاً:


وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فلما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلل
قلت
ألا أيها الليل الطويل لأنجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل



فشعور وليل امرؤ القيس يشبهان شعور وليل شاعرنا عبد الله (رحمه الله) تماماً دون منقصة والاختلاف الوحيد يكمن في نوعية المفردات فقط:


واحد علي يا ليل تطول أو لا تطول
ايه يعني لو طلع الصباح وخلاني راح
وبقيت دخول
ما تاني بتخيم علي
ليلي يا ليلي الكسول
وانا في حويلي تراني لا شوقاً يخف لا هم يزول
رحماك يا ليل الأسى الما فيك لي غير الذهول
لا فيك نجم يتعدى لا واشي بيقول
لا فيك خير لا فيك شر لا من حبيب لا من عزول
ماليني هم خليني يا ليل السجم
شوف غيري زول



فقد استطاع شاعرنا (رحمه الله) ببساطة المفردة وجزالتها أن يجذب قطاعات كثيرة بقصائده ، بل استطاع أن يجذبهم ويفتنهم بقصيدة واحدة ، حيث تجد أن الأدباء والنقاد قد وقفوا عند مفرداته ودلالاتها وما يتخلل قصائده أو القصيدة الواحدة من صور بلاغية تغطي كل جوانب البلاغة من تشبيه عادي وبليغ ومقلوب واستعارة وجناس وحسن تعليل ولوحات جمال كما في المواضع التالية :


فكي ليلاً لامَّا طرحة وافرديهو أدينا كشحه


أو كقوله في موضع آخر:

العجب العجيب إيدو الملاني غويش
شفنا التَّلة لكن مافي حس كشيش


وهذا البيت يطابق ما قيل في الأدب العربي (أرى خلاخيل النساء تجول ولا أرى لخولة خلخالاً يجول)


ويتجلى ذلك في نظمه باللغة العربية الفصحى التي لا يعرف فنونها ، - وهذه شاعرية أشار إليها الدكتور توفيق الطيب في معرض حديثه عن هذا الشاعر والذي سيرد لاحقاً - ، ونستشف ذلك في الموضع التالي:



وآ سبيبٌ كان ليل الحفل اسودا ينهدل
وآ قوام ينثني طوراً وطوراً يعتدل
أ بما الورد أمْ بالطهر كانت تغتسل
كبرياء لست أدري يتحدى أم هو يبتخل



بل يتجلى الإبداع في استخدام المفردة الواحدة بدلالات مختلفة في موضع واحد خالقة جرساً موسيقياً متناغماً متناسقاً جميلاً دون إخلالٍ كما ورد هنا:


تعاين في الكرسي واحد تآمن بي الله واحد
تشوف الفي زمانو واحد عيار عشرين فوقو واحد


وفي قصيدة أخرى يقول فيها:

أشوف السحر البِراري
وكم أبدع فيهو باري
وأشوف الشعر البراري
كثير كاسيهو ومباري
يبين حسنو ويضاري
وأغالب فرحي وأداري



ففي الوقت الذي ينام فيه هذا الشاعر (رحمه الله) ملء جفونه بعدما أدهش قطاع الأدباء بعبقريته المدهشة في التعامل مع الكلمة وجعلهم يسهرون ويختصمون حول لغته ومضامينها تجد قطاع العاشقين - قطاع قد لا يهتم بتحليل القصيدة كثيراً - هائماً بأبيات قصائده ، حيث يجدون ألسنتهم العاجزة أصبحت فصيحة في الترنم بكلماته مخففةً ما بهم من هيام "كل يغني على هواه" ، كل منهم يريد أن يحل الله عقدة لسانه ليجد مدخلاً لقلب من يهوى ، "داير الحروف تبقالو نور تبقالو في قلب البحبو جواز مرور":



مرت ليالي طوال علي وطأة غرامك ما بتخف
حاولت أصارحك وليك بالبي اعترف
فكرت اكتب ليك رسائل بي دموعي الما بتجف
مليون حرف
داير اخليك عن دلالك تنصرف
وداير اعبر عن مشاعر عن مشاعرك تختلف
دايرك تصدق أن في محراب غرامك معتكف


أو كما نظم في قصيدة أخرى لهج بها كل لسان:

يا الناسينا حبك في ربيع دنيانا شال نور
أهديك زكريات يا روحي شان تخضر لي تكبر



ولا يقف الأمر عند الأدباء والنقاد والعشاق فقط ، بل يجد الذين لا علاقة لهم البتة بتحليل الأدب ولا حتى العشق نفسه "افترضاً" ضالتهم في استخدامه للمفردة العامية اليومية ، سوى أن تعلق الأمر بسفر أو وصف رحلة أو سرعة بص سفري من خلال استخدام المفردات التالية في وصف ما يعشقون في عالمهم العملي (نشَّ ، خشَّ ، رشَّة ، كسح بالنور والمنشة ، جربنديِّ ، عواسة ، بوري:


توكل وبالحاميه نشَّ دقايق في قبولي (القبولاب) خشَّ
لقى الخلا ماخلدو رشَّة وكسح بالنور والمنشَّة
نكتِّر لله الحَميدي الضهر حاضر في الحِميدي
رحلات التوفيق سعيدي قربت للناس البعيدي
السواقة وراثة ودراسة مو جربنديِّ وعواسة
رزانة وحكمة وفراسة ودي ود ابزيد كان اساسا
القيادة محكِّم نظاما ذوق وأدب واستقاما
بقت في بوريك علامة بركة الجيت بالسلامة



ويقيناً أن عالم الرقيقات ، الجنس اللطيف ، هو الغالب (صاحب الجلد والرأس في الإعجاب بقصائده) لأنهن بيت القصيد حيث تصبح كل واحدة ، شاءت أم أبت ، معنيةً أو متوهمة أنها معنية بكل قصيدة وبكل مفردة:


حبك لي عقيدة ومبدأ
ريدك لي طريق أنا منو لازم أبدا
آه من شذاك يا وردة
وآه أنا من عيونن للسلاح تتحدى


أو ما نظمه في قصيدة العقد:

الله من خلاني متلك ياعقد
ارتاح وفوق صدرو انسند
لا بنسئل لابتنشد


هكذا يجد كل إنسان قلَّ أو كثر علمه ، زاهداً أو مادحاً، صبياً أو كهلاً نفسه في موضع من مواضع قصيدته.
هذه الموهبة والملكة والمقدرة على تطويع المفردات واستخدام القديم والحديث منها قد وصفها الدكتور توفيق الطيب في كتابه " نظرات في الشعر الشايقي " معلقاً على الشاعر عبد الله ، واقتبس التعليق المهندس عبد الرحيم محمد الحسن ، - وكلاهما من الذواقين للفن والأدب- ، في مداخلته ،: (إذا جاز لنا أن نستخدم التعريف الجوهري ، للشعر العربي ، لجاز لنا أن نقول – ودون تردد – أن شعر عبد الله موزون ومقفى ، ثم هو محدث بالنفس لذة لا مثيل لها ، ولا نظير لها في كثير من الأعمال الأدبية المعاصرة بل إن كثيراَ من تلك الأعمال لا تتعدى تلك اللذة التي نجدها في لغة التخاطب اليومية ، إن صح أن للغة التخاطب لذةَ تذكر.
وعبد الله فوق كل هذا ، شاعر مطبوع ، نافذ الإحساس ، ثاقب الفكر ، متوفر الشعور ، كثير الابتكار ، سهل الألفاظ ، رقيق العبارة ، جزل المعاني ، قليل المحاكاة إلا في مواضع قليلة لا يسلم منها كثير من المبدعين . كتب ما يربو على الخمسمائة قصيدة ، تخلل النغم ثلثيها ، وحفظ القلب – وردد اللسان – أكثر من نصفها وله قصائد كثيرة باللغة الفصحى ذات بال ) ... انتهى ، وقد وصف الشاعر محمد عبد الباقي حسين المعروف بالدرويش (أخ الشاعر المحامي عبد الرحمن الحسينابي) مقدرة وعبقرية شاعرنا (رحمه الله) هذه في قصيدته التي نظمها معتذراً لعدم حضوره لعرس الشاعر عبد الله 7/7/1977 ، (وهي من أجمل قصائد الشعر الشايقي سأوردها في نهاية هذا الخيط للفائدة العامة) قائلاً بأنه يخلق الجمال من البالي المنعدم بعد "الدوليق" بل بعد أن يصبح "كاويقاً" "عذالاً ورا الدوليقة من كاويقة تنظمه بي خيال فنان ":

اليوم سبعة (يوم عرس الشاعر الراحل عبد الله)

اليوم سبعة واترصت تلات سبعات سلام تعظيم ابشرو وغنو يا الحبان
كال بحر الدميري قيوفو يهدر موجو دندن وجرجر الألحان
حزم نص شديراتنا الربن فوق حرفو "ماكسي" ونقنق "القفطان"
غرق واطي جزيرتنا واترسمت صبي العين يرقرق فوقو حب النز دموع العاشق الولهان
رطن "ود الجزاير" وقوقت "أم سوميتي" عرق اليابسي ناده ولان
كوفتن التميرات الضفاير وجقبلن في الدارة ما الليلي الزمن سكران
الفي الحورة نافشي سعيفة تنكع وينبرم شبالة فوق الدارة والصبيان
ما عرفوك وصف الجمال غنايو رافع الشعلة يا ربان
عذالاً ورا الدوليقة من كاويقة تنظمه بي خيال فنان



لقد عرفته من خلال بعض أشعاره منذ أمد بعيد وانطبق علي قول الشاعر العربي "أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا" ، وقد أكرمتني الأيام بمعرفة هذا الإنسان عن قرب وذلك من خلال معرفتي بالأستاذ (رحمه الله) عبد المنعم محمد محمد خير (المحامي ) ، ابن أخت الشاعر الراحل عبد الله (رحمه الله) ، وتوثقت تلك المعرفة عبر زميلي الراحل أيضاً الأستاذ عبد الهادي أحمد عثمان (عبود المحامي) (رحمه الله) ، حيث كنا نذهب لمحكمة الدبة مرة كل شهر ، لمدة أسبوع ، ونكون عادةً في ضيافة الأخ الكريم عباس محمد مدني الذي كان يصطحبنا والأستاذ الفنان صديق أحمد إلى ديار هذا الإنسان بقرية الكَكُر في كل إجازة يكون فيها الشاعر ببلده الككُر.
كان هذا الإنسان يقابلنا خارج البيت فوق "قوز" رملٍ تم رشه "من عصراً بدري" بمياه "مترته" أمام بيته ، وفي كل مرة ما كنت أعرف بأي يدٍ سيسلم علي ، فكلتا يديه تستبقان نحوك بالأحضان وجميل الكلم يلفك في بساطة غير معهودة ، وكعادته لا يطيل في الكلام العام فتجد نفسك في "حضرة من تهوى عبثت بك الأشواق ، فحدَّقتَ بلا وجه ورقصتَ بلا ساق" صاغياً مستمعاً لجديد النظم من فيهٍ معرجاً بك لقصيدةٍ جديدةٍ ، موضحاً لمناسبة قصيدة أخرى، كاشفاً للمستور الذي يفسره كل عاشق حسب هواه ، معرِّفاً إيانا من هي "سعاد يا زينة حريما" وكيف (خدَّرت) خضَّرت زراعته أمام بيته؟ وكيف أصبحت غيمة ؟ ومتى أصبح صريح القانون ينص بأن "الوقوف جم داركم جريمة". هكذا كان يتنقل بنا من درة إلى أخرى ، أورد على سبيل المثال منها وليس الحصر:


بلدكم مر بيها صُدف
وعند دار البريدو وقف
يا جميل غني واتلاطف


فـكلمة "البريدو" هي بدلٌ للمفردة الحقيقية في النص الأصلي مجاراةً لأعرافنا في حفظ اسم المحبوب محجوباً مستوراً ، ودائماً كانت تعقب هذا التوضيح ضحكاته وضحكات زميلي المرحوم عبود (رحمهما الله) تجلجلان بعد أن يفلح الأستاذ صديق أحمد في إقناعه بتوضيح أسرار القصائد التي أحسب أن جلها قد طمر معه تحت التراب
.


لقد عُرف هذا الرحمن بعراكه غير المتكافئ منذ أمد طويل مع وسائل السفر وعلى رأسها "بوابير البحر" (البواخر النيلية بين كريمة ودنقلا) ، ( الزهرة ، كربكان ، الجلاء وعطارد) وذلك لما سببنه له من جروح لم تندمل "أبت تبرى" :



من الدبة وانجرا وسريع النهمة فاتا جرا
زولي الشالتو "الزهرة" وجروح قلبي اللبت تبرا
العفاض خلاها ورا وخاشي قنتي بان شدرا


معدداً جميع محطات الباخرة شرقاً وغرباً حتى تصل الباخرة إلى كريمة لتسلم
المحبوب ، الذي ترك الشاعر يئن من جراحات الفراق ، لذاك الذي كان يقال في وصفه "بيسابق الريح" و"هيهات لا جن ولا سحرة بقادرين على أن يلحقوا اثر" ، قطار كريمة حيث تجد الشاعر مشفقاً على المحبوب من ركوب القطار "ووقفة النهار" الحار:


ديك كريمة وداك قطرا
واقفين والنهار حرا



ولكنه يستسلم للقدر ولا يجد بداً غير التسليم فيواصل في تعداد محطات القطار لعلها تشفي جراحه بدءً بالكاسنجر مروراً بالشريق وبربر "ودق الصفارة" في "عطبرة" إيذاناً باتجاه آخر نحو الشرق حيث المستقر "بورسودان حد الرحلة" ، مختتماً جميل كلامه بوصية للمحبوبة بكتمان السر:



تعال أوصيك يا جارة أنتِ للسر كوني ستارة


سائلا مولاه أن يطفئ نيران جروحه (ما أصعب هذا الوضع :جروح وفيها نيران):


مولايا جروحي أطفئ نارا ودي من يوم غابت القمرا



ما كاد ينفك شاعرنا من أذى باخرة إلا وتؤرق مضاجعة أصوات أخرى وهو إنسان مرهف أعزل لا يعرف غير الحب وليس لديه من آلات القتال ، الذي جُبرَ عليه ، ليصرع هذه الآفة ، سوى بنات شفتيه:



كنت غايب وجيت اسألا
قالو قامت لي دنقلا
الجلاء القام بيها حل
واصل الرحلة بي أكملا



لم تكتف باخرة "الجلاء" بأخذ محبوبته لـ"دنقلا" مرة واحدةً فقط ولكنها واصلت "الجلاء" اللعب بمشاعره فهاهي هذه المرة تنقل محبوبته نحو دنقلا في طقس بارد:
:


الله من الجلاء والبرد
والله على فلذة كبِد
كان نايمة قدام الكبد



ولكنه رغم تأذيه من البرد وفعل هذه الباخرة فقد كان يستلذ بالعذاب متمنياً أن تنسى الباخرة آخر محطاتها "السليم" حتى يستمد قوته وروحه وذاته من جمال المحبوب :


يا ريت لو الوابور يمد
وينسى السليم لو بالعمِد
شان لي وداعك نحتشد
دايرين نصافحك وده القصد
أصلو كان ما تم القصد نلبس سواد شهرين نحِد


(وقد أدخل الأستاذ صديق أحمد هذا البيت الأخير وكان يفعل ذلك كثيراً حيث يدخل كلمة أو يغير كلمة أو يأتي ببيت ويكون في غاية الجمال).


ولكن لم تكن هذه الرحلة آخر أحزانه ، بل ظلت البواخر تمارس ألاعيبها القذرة دوماً معه "وخلف الكي فوق جروحه المنوسرة" فعيلَ صبره ، فنادى هذه المرة بأعلى صوته مستنجداً بمكلومٍ ومظلومٍ آخر (ود الدابي) عانى أيضاً من هذا الجاني (الباخرة) الذي يرتكب جرائمه في وضح النهار وتحت مظلة القانون (يطلق صفارته) ، راجياً منه التدخل ملوماً إياه على الصمت حاكياً له "كيف مسخت بلدنا" بعد سفر الحبيب وكيف فاضت دموع البلد عند الوداع ، أما حياته فلم يعد لها فائدة ، ولولا "شيل الحال" ومخافة العازلين لتبع الباخرة :


ود الدابى مالك ساكت ما شفت الجلا السواها
شال محبوبتي سافر بيها كيفن عاد بعيش لولاها
بابور البحر مو عارفي شايلي اعز زول جواها
ماهماها حالي البي ما دام نوَّره وضواها
تشتكي بالعلي عيوني أهمله ما سمع شكواها
اللحكيلك ألماك عارفو كيف مسخت بلدنا ورآها
كان كاتمه الشجن في وداعه ال دموعه مو ساتراها
وأيه فايدة حياتي البعده آخوي أتقلب مجراها
تقصر او تطول أيامى دي إنا لأمن أموت بطراها
من يومة رحيله السمحه خلت في العيون ذكراها
خلت في القليب بصماته أحرف كل يوم بقراها
***
ما بتحمل حبيبتى الغربه لا لا وحاته مو قادراها
وكيف حاله إن مشت في بلدا حاره وناسا مو شاكراها
كان فات المحطات جمله يا حسن (لابد) القرير بقشاها
قوم يوم التلاتاء أندله بى تالا الرصيف تلقاها
ما تعاين كتير وتشبه ديك إياها ديك مو ياها
باينه حبيبتي من بسماتا والنور يضوي من محياها
***
يا حسن أنت فوق أوصافه جيب أبيات وقول معناها
واوعك ترتبك فى وداعه ذي ما نحن ودعناها
واكتب لي جواب طمني لا يبقى السفر أعياها
ما بتقدر عليها الدرجه إلا غلب عليها حياها
هاك مني الرسالة التالته وعينى بالدموع راوياها
تلقاك حافظي للبيناتنا وتبقى العشره مو نا سياها
إن كنت ما بخاف عزالى آزول كت بقوم ابرأها
لكين بخشى قنا وقالو وحالي السمحه عارفه براها



هذه المرة كان لندائه وقعاً حيث لم يذهب أدراج الرياح وكانت هناك حياة لمن نُودي ، فرد عليه الأستاذ حسن الدابي ، حسب منهج شعرائنا في "المجادعات الشعرية" ، أذكر منها على سبيل المثال: (ود الدابي أستاذي القدير غلبت الحيلة جيتك مستشير / ووب علي أنا يا السرير الجن بدا / حمد سعيد ما كان أخير تسيبو الريد وتناساه القرير ) منتصحاً بقول حمد سعيد في رده على استنجاد الأستاذ السر عثمان الطيب: (حمد سعيد شنو عندو ليك يالسر ، بلا ألمن انطوى انترجم بقالو شعر) ، حيث اعتصر (ود الدابي) ألمه وكل أحزانه واستجمع باقي قواه الخائرة لنجدة مظلوم "الككُر" عبد الله محمد خير (رحمه الله). ولكن لما لم يكن عند "ود الدابي" قوة تمكنه من النـزال واستخدام يده ، ولما كان يعرف أن استنجاد شيخ العاشقين لا ينفع معه الاكتفاء بأدنى مراحل الإيمان (استخدام القلب) لإزالة الضيم والضرر المتكررين استخدم سلاح المفردة (ثاني درجة بعد استخدام اليد ) مكتفياً بلسانه حيث شهد على الجرم موضحاً عجزه اليدوي داعياً دعوة مظلوم لم يكن بينها وبين الخالق حجاب سائلاً الله أن يعيق "الباخرة مثلما عوقت الناس" بعد أن أضرت به تلك "المساسقة/ والمزازاة":


يا عبدو أخوي قولك حقيقة
وكتير الطفشه الجلا من فريقها
دا اليزازي نقل سميحات الخِليقا
رنين صفارتو غلبني أطيقا
تعيق في الناس إله الناس يعيقا
أتمناله في دالة غريقة
تحتل فيها ما تفضل شقيقة
تطير ريشاته منها بي فريقة
وصميم مكناته تلتهمو الحريقة
قمرات نومه تسكنن أم دريقة (السلحفاء)
وتلد في عنابرو عشان غريقة
كتير قبلك يئن مضروب بديقة
تسد عبراتو تسمع لي شهيقا



فتحققت تلك الأمنية وأصبحت "بوابير" البحر اليوم تحت الماء نسياً منسيا تفرخ في عنابرها السلاحف (أم دريقا)، فالجيل الحديث لا يعرف عن هذه الوسائل ولم يرها ولم يسمع بأفعالها مع شعرائنا.



لقد بلغت درجة كراهية الشاعر الراحل عبد الله (رحمه الله) للبواخر مبلغاً جعله يغير خططه ، في محاربة هذا الخصم ، من المواجهة المادية التي لا يقوى عليها إلى تقليل مستوياتها والتشكيك في مقدراتها والمقدرات العقلية للذين يسافرون بها إلا إذا كان قد أصابهم مسٌ من الجن أو لعبت بنت باطوس (الخمر) برؤوسهم ملعباً ، فنظم قائلاً:


اليقوم بي كربكان من اهلو تب ما عندو راس
إلا وحدن ....... جبد غتاه وكتحلو كاس



لم يسلم شاعرنا (رحمه الله) مما كان يعاني منه بسبب البواخر ، بعد أن غرق اغلبها وأصبحت غير صالحة للنقل ، ولم يهنأ بذلك ، حيث ظهرت "البصات السفرية" امتداداً لذاك العناء والشقاء فزاد سهره ففتح جبهة قتال جديدة لا حول له بها ولا قوة مع هذا الاختراع الجديد الذي يخطف "الحبائب" ولا تستطيع الرمال تعطليه مثلما كانت تفعل للعربات " السفنجة":



داير اقوم بالتوفيق (اسم بص سفري) خفر مالو زي دا ومال السفر
شقق القوز بالجو دفر لا مساعد جرى لا حفر
السموم يا فيصل الحر أمنعن لو كان بتقدر


ويقول في موضع آخر:

البلد حزناني مقنجرا وادو وين يا صابر جرا



ولكن هذه الضربات السريعة الموجعة التي سددتها له هذه "البصات" جعلته يهادن ويغير لغته التي انتهجها مع "بوابير البحر" ، حيث تجد في أبياته الشعرية روح الحكمة في ردوده للذين شكوا إليه ظلم هذه البصات بعد أن أصبحت دنياه "فرندقس" وخابت كل أسلحة نزاله ناصحاً إياهم بالتجمل بالصبر حيث يقول في قصيدة أخرى:



تلب (اسم شخص) امسك حبل الصبر خلو قلبك لا يبقى ني
اصلو ود أبزيد (سائق بص) كل يوم من بلدنا يرحِّل جدي
الككُر يا رحمن زمان ضاع مع العشاق شاعرا
جننو البتوفيق رحل هام ورا القام بالباخرة
ما نفع تغريدو الحزين ما شفع صدق مشاعرا
خلا دنياهو فرندقس ما عرف أولا وآخِرا



بل اضطر إلى تغيير لغته تماماً معدداً مزاياً "البصات" السياحية مثمناً سرعتها واصفاً السفر فيها كأنه سباحة أو كأن البصات ظباء ، بل أصبحت في نظره تطوي الأرض طياً مضيِّقة عليه الدنيا "الوسيعي" مقللةً لفرصه مع المحبوب وقت أن كان يمتد السفر لأيام وليالٍ ، فهذه اللغة قد يكون القصد منها أن ترحمه تلك "البصات" قليلاً أو ربما لأنه كان بداخل "البص" في معية المحبوب فنعم بوجود من يهوى وخلد له:



خلاس أنا هبت رياحي وصفالي زمان ارتياحي
زاد لي سهري ونواحي قام بالتوفيق السياحي

من عند الفاتح قيامو ختم ورقو واخد تمامو
يا ربي تبارك ايامو وتعدل الخطوة قدامو

سمح توقيتو الصباحي مريح سفرك كالسباحي
منع غنايو النباحي وسمحلو الغزل الاباحي

توكل وبالحاميه نشَّ دقايق في قبولي (القبولاب) خشَّ
لقى الخلا ماخلدو رشَّة وكسح بالنور والمنشَّة

سرح زي ظبي الضواحي السرح بين الوديان وواحي (واحة)
كفاي يا نوح من نواحي وأزاي من عدة نواحي

رزاز والنسام ربيعي تجمَّل وخليك طبيعي
نكوس في الفرص الوسيعي سواقنا طوابنا الوسيعي

يلقط يوت في النوادر يشيل ويودي البنادر
مخيَّر عاد والله قادر هن ماهن شبه الدرادر

نكتِّر لله الحَميدي الضهر حاضر في الحِميدي
رحلات التوفيق سعيدي قربت للناس البعيدي
يا الزباينك واسع نطاقا عشان تصلك بازلي طاقا
بقى حجزك بالبطاقة في ترحيلات الصداقة
السواقة وراثة ودراسة مو جربنديِّ وعواسة
رزانة وحكمة وفراسة ودي ود ابزيد كان اساسا
القيادة محكِّم نظاما ذوق وأدب واستقاما
بقت في بوريك علامة بركة الجيت بالسلامة



كان شاعرنا عبد الله (رحمه الله) يدرك قدر نفسه جيداً ويعرف أنه شاعرٌ موهوب وفنان يمشي بين الناس موزعاً للرحمة الأدبية ولكنه رغم ذلك كان متواضعاً شفيفاً تهزه "كليمي من إنسان" ، لم يخرجه فنه عن سماحة أهله ولم يغيره الصيت حيث ظل كما هو منذ جهله يفخر بهم ويقاسهم الفرح الذي لا ينشده إلا بينهم ، فلم يكن كذاك الشاعر العربي الذي فخر بنفسه لا بجدوده:

لا بقومي شُرِّفت بل شُرِّفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد وعوذ الجاني وغوث الطريد


فكان كل همه هو الفرح وخلقه من العدم والاستمتاع به بين أهله وأنداده وأصدقائه وأقرانه وجعله متاحاً للناس:


أنا البيكم بقيت عزيز ولي مكان
بقيت محسوب من الأعيان
بقيت فنان أهز الناس طرب وأسقيهم الألحان
قسم بي كل ما حولي
بيوت أهلي .. نخيل أهلي... شقاوت أهلي
بي واطاتم المزروعة والسهلي
وطيبة أخلاقهم المعهودة والمهلي
ياني وليدم العرفوني من جهلي
"ودعبدون" عزاي الفرحة بين أندادي والمتلي



ورغم أحزانه المتواصلة التي خلفها فراق الأحبة ، تجد أن عزيمته لا تلين ولا يقنط من رحمة الله والمحبوب أبداً ، رغم جور الأخير وظلمه الواضحين ، ممنياً النفس بلقاء حتى لو كان "في المنام أقول يحلم بي أنا"، مبتعداً بنفسه السمحة الشفيفة عن الغضب ، بل نائياً من أخف أنواع اللوم حاسباً تعمد الجفاء من المحبوب نوعاً من المودة طامعاً في المستحيل:



راضين مهما حبوكلفنا
لانو ملك شعورنا ملك عواطفنا
والفناهو لو يرحم يوالفنا
نحن نطيعو ما دايرين يخالفنا
أجمل منو في الكون كلو ما شفنا
جود يا الله بي لقياهو وانصفنا
حاول مرة زورنا عشان تشرفنا
نظمنا القصايد فيك والَّفنا
دايم حبي ليك ومستحيل يفنا


أو كما نظم في موضع آخر قائلاً:


لحكمة ما بكت العيون الشاخصة في وجهاً جميل حافظ نداي
والليلة كاسيهو الشحوب في يوم زفافك خاصم هواي
كان صاغية لي صمت العيون الكان بردد يا ضناي
انا اصلي ربي خلقني ليك ورسم جواي
وقسملك انو تعيش براك واعيش براي


ونظم في موضع آخر قائلاً:

ليك حق يا قليب عاد ان بقيت درويش
يا الصاقرت ود اب ريش
دا الوالفتو قبال ما يربي الريش
ربى جناحو فات خلاك للطرطيش
الحن نار عويش
كان علقوها تعيش
بس ما انت جاهل وكان جفيت معليش
قصدو يكاوي حش عصبنا حش العيش
لافي سلام
لافي كلام
لا بالليد
لا غميت ولا رميش
من جاي آ زول عاد ولي شقيش


أو كما نظم في موضع آخر قائلاً:


بحسب جفاك مودة وأترقب لاقاك مهما تطول المدة

ونظم في موضع آخر قائلاً:

شايل زادي شوقي وشعري من غيرم فقير معدم
إلا مع غرور محبوبي لا أخّر ولا قدّم
مهما قلت فوقو كلام وفوق اوصافو جبت حِكم
اطمع في ودادو ألاقي بي هجرو وصدودو حَكم


بل يصرح بأن الرفض له ، من المحبوب ، لن يغير من عزيمته وقيمه:

أرفضيني
إلا رفضك ما بيغير من عزيمة
وما بيبدل في ضمير مليان من القيم القويمة
كيف نسيتي الحكمة يا الطيبة الحكيمة
يا عظيمة


فكل ما يقوم به الحبيب من قطيعة وجفاء لا يجد غير القبول والدعاء بما هو أحسن من أجل سعادته فلم تعقب "ريدته عداوة" أبداً رغم تهديده بذلك في إحدى قصائده "وليك من عداوتو شِفق" ، يلفه "العشم" متمثلاً قول الشاعر : "قد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا" ، فكأنما لسان حاله كان يردد قول الشاعر العربي :


ويحي أيعترض القنوط عزيمتي والحزم من طبعي ومن عاداتي
والدهر طوعي والزمان مصادقي والصبر ورعي والثبات قناتي


بل كان يجد شاعرنا (رحمه الله) راحة نفسه في عذابات الحبيب له طالما أن الحبيب قانع وسعيد بذلك:


أرضي تبني سعادتك المنشودة فوق انقاض صرحنا
نحن غنيناك في اللحن الفرايحي وبيك فرحنا
أنت لو راحتك عذابنا في العذاب نحن استرحنا



كان هذا التسامح والتصالح مع النفس والمحبوب القاسي الظالم واحترام أقدار الزمان ، جزءً من وجدان شاعرنا (رحمه الله) لا يتزعزع أبداً ، حيث تجده راضياً بالمقسوم ، وهو توحيد ليس بعده توحيد ، تجده راضياً حتى لو كان الأمر جالباً للبؤس والشقاء مضيعاً لأحلام عاشها لسنين طويلة ، فهو يقبله طالما أنه يرضي آخرين أو يرضي مجتمعه أو محبوبه ، ويتجلى ذلك في قصيدة "المكتوبة مابتنفات" وغريبة ما بكت العيون":


المكتوبة مابتنفات والمقسومة ياها الجات
حبابكم عشرة يا الأخوان ويا الأخوات
حبابكم عشرة يا الخالات ويا العمات
حبابكم والضمير راضي وحبابكم وفي العيون دمعات
وحات الكرشة والعجوة ووحات ام راس
وويرة وسوس والميس جم بيوت عباس
وحاتك يا اعز الناس
وحاتك يا عقيد الماس
ووحاتك يا جميل الصورة الاحساس
وحاتك إنت ما اتلوم
ولا بقدر على قولن بعد باكر وسط زملاي بيهو انزم
أنا رضيت كل التقيلة اشيله واتلزم
رضيت أضحي شان ارضي الأهل من جم
رضيت أشقى شان أسعد بنات العم
رضيت أفكاري تتشتت عشان كل الشمل يتلم

ويقول في قصيدة أخرى راضياً بقدره وقضاء الله موضحاً منعته في الشدائد:

غريبة ما بكت العيون في يوما داك
لما انكتم نفس القليب الكان بشيل هوا من هواك
غريبة إني وقف امام عينيك وما انهارت قواي
اتجمعت كل المعاني السامية ديك اللحظة واتحدت معاي
غاية رجاي قيمة وفاي معني غناي وتمن شقاي
يا من وهبتك كل ما مضى من حياتي ومن صباي
أنا هل ظلمتك ام ظلمتني لما سبتك لي سواي

ويقول في قصيدة أخرى:

عديلة عليك محل ما تمشي تمشي
يا عديلة ابقيلو زي القيمة رشي


ويقول في قصيدة أخرى:

عاد يا قلبي كيف تعمل
ماضيك اللكان أجمـل
سعادتك فيهو ماش تكمل
ودقاتك بتتعطل
تقبل والله ما تقبل
مجبور ترضى باللحصل
تخطيطك تراهو فشل
وما دليت دلوك نشل
كفاك زمن شربت عسل
هاك اتجرع الحنضل


ويقول في قصيدة أخرى:

إنتو مهما يطول عذابكم
الله ما بتقيف رحمتو



وخير شاهد على ما نقول هو ما نظمه في قصيدته المشهورة "يا زمان":

وأنت فى عشك سعيد هاني وممجد
ما يهمك طرفي عمره يعيش مهجد
أنا ليك بتمنى السعادة وليك بقول انشالله تسعد
وارضي بالمقسوم لي والمقسوم لي أنو حبيبي يبعد



وكما نعلم ، للعيد وقع في نفس كل إنسان يختلف حسب الظروف التي يكون فيها أو يعيشها وجدانياً ، وهذا أمر من الأمور التي وردت في الأدب العربي : "عيدٌ بأي حالٍ عُدت يا عيد لما مضى أم لأمر فيك تجديد" ، وبالطبع كانت للأعياد التي مرت على شاعرنا ، وهو في غربته بعيداً عن أسرته وأهله وعشاقه وأحبابه ، وقعاً أمرَّ من وقع السهام والرماح وبيض الهند مزقت قلبه تمزيقاً جعله يتمنى إلا يعود عليه هذا العيد مقارناً بين صورة العيد في بلده "مباركة العيد من الأم ودعواتها" ، خروج الصغيرات في الصباح الباكر يحملن الفرحة " سون الشرطان ضفاير" ، بينما هو في غربة حقيقية لا يجد حتى من يعيِّد عليه قريباً كان أو غريباً ، فأي ألم ومعاناة اشد من هذا؟؟؟ وأي شيء ينفس هذه النفس الحساسة الرقيقة؟ البكاء فقط ولا غيره ، وسنتطرق للوجه الجميل من العيد في قصائده أولاً:



يوم بيتنا اصبح كلو خير
يوم كنا بي نشوة فرح داير نطير
يوم القمر في بيتنا متواضع قعد فوق السرير
وقال كل عام وانتم بخير



وهنا نطرح نماذج لأقبح الظروف التي مر عليه فيها العيد من خلال نظمه التالي:

روِّح فوت بلا ندم وليا جيت يا عيد بلا طعم
فيك لا أماً تقول ترجوه داير
لا زهيراتن حليوات سون الشرطان ضفاير
لا عروسن في بسيمتا من بسيماتك كم بشاير
لا قريباً تلم زيارتو ولا غريباً جانا زاير
في الصباح حصِّل عذابك منتهاهو
ولي رضيت بي حالن العدو ما رضاهو
قلبي طاوع حزنو مشى حسب هواه
بكى وبكى وما لقى أحسن مابكاهو


ونظم في موضع آخر قائلاً:

أجيب قلم وأحصر تعابير الألم
كل ابتهالات العشم
لكني من أول حرف اجد الأنامل ترتجف واتذكر العيد المضى
أعياد تجي وأعياد تفوت
والفرحة تصحب كل عيد تملا البيوت
وأنا كل ما استقبلت عيد أحيا وأموت
وأطبع ملايين التهاني على الكروت



يجمع الليل بين النقيضين عند شاعرنا ، فهو مصدر البهجة والسعادة المطلقة عنده ومن ثم يتمنى من ليله ألا ينقضي أبداً وألا تشرق الشمس عندما يكون وسط أهله وأحبابه ومن يعزه بصورة خاصة ولكن عادة ما تبدو ساعات هذا الليل دقائق بل تمر أسرع من لمح البصر ، ويكون هذا الليل جحيماً لا يطاق مليء بالهموم تحفه المخاطر وتتقاطر على شاعرنا من حيث يدري ولا يدري عندما يكون بعيداً عن أحبابه في غربته اللئيمة:



يا حلاة ليلا معاك ما درنا يبصح
ويا حلاة صبحن تكون انت المصبح


والنموذج التالي نموذجاً لأقبح الليالي التي مرت عليه من خلال نظمه:

واحد علي يا ليل تطول أو لا تطول
ايه يعني لو طلع الصباح وخلاني راح
وبقيت دخول
ما تاني بتخيم علي
ليلي يا ليلي الكسول
وانا في حويلي تراني لا شوقاً يخف لا هم يزول
رحماك يا ليل الأسى الما فيك لي غير الذهول
لا فيك نجم يتعدى لا واشي بيقول
لا فيك خير لا فيك شر لا من حبيب لا من عزول
ماليني هم خليني يا ليل السجم
شوف غيري زول



رغم سيطرة العشق والغرام وجبروت الوله ، ورغم الجراحات الغائرة ، ورغم هجران الحبيب ، وضربات "البواخر" "الساسقت نقلت كل سميحات الخليقة" ، ورغم الغربة والحزن ، ورغم مرور الأعياد دون رفيق أو قريب أو حتى غريب ، ورغم طول الليل وخلوه من أي حسن إلا أن شاعرنا لم تنسيه كل هذه الصعاب والجراحات حب وطنه الكبير السودان وحب وطنه الصغير " الككُر" بل كانت مصدر إلهام لنظم درر ما كان لنا بها من علم لولا تلك العذابات ، فلا يفتأ يذكر في وطنه الصغير "ناس أم زين" وكم هن حلوات سارحات في رباه يكحل الحياء عيونهن و يكسي العفاف أبدانهن ، بل يتحدى من يجرؤ أنه قد لمحهن مجرد لمحة "بلا حشمة" ، بل يشتاق "لطلوع الساقي ونزول القيف" لا يلتفت لدورية "يطلع وينـزل " كما يريد يلبس "عراقي وسروال" أي هدوء بال أكثر من هذا؟؟؟؟ :


يا وطن ديما ليك بحن وفي الدرب البجيبني عليك ما لي محن
ناس أم زين حلاتن في رباك سرحن
كاسيهن عفافن زينة زي طِرحن
ومن غير حشمة كضاب اليقول لمحن


فجمال بنات بلده وحشمتهن وأدبهن ومعرفتهن بالقيم والخلاق جعلنهن يثور صراحة ضد كل ما هو مخالف لمنهج حياتنا البسيط وقيمه النبيلة ، وكل ما يأتي متخفي في ثوب التحضر وهو أبعد عن ذلك:


اصلو الزمن يا السمحي ياهو كدي وكفا
اصلو الزمن يا السمحي ضاع فيهو الوفا
اتبدلت كل القيم وبقت الفضيلة مخالفة
القعدة "الونسة" دا الاسم الزمان
سموها بارتي وبارتي حاد
لازم يكون عدد البنات قدر الولاد
وهالك يا غنا
وخد يا عصام ناول منى
بصحتك وعلى شرف راس السنه
طول بينا يا ليل السواد
شبعنا في خم الرماد
لامن نحصل قوم عاد
وكان الله في عون العباد


ويقول في موضع آخر:

قريب لو في العمر باقي
قريب تلقوني بيناتكم وسط خلاي وعشاقي
أفارقك يا بلاداً لسه ما عرفت هويتي انا
أنا هويتي دروعي ودراقي
هويتي وطن ولادو على دين الله سباقي
ومابفوتوه لو ما العيشي حرت نارا
كيفن تدرو نار العيشي حراقي
أطل القيف تلوت الليل ومرات اطلع الساقي
لا في مرور يقول لي اقيف ولا دورية بتلاقي
وبدل رديف هدوم الصوف كفاي سروال وعراقي




بل كان يحلم بالرجوع لوطنه الكبير أيضاً والجميع "متلفحاً الحرية شالا" "لابساً التوب المطرز بالعادلة" ، متنعماً بالحرية وبكل تلك الحياة الحالمة الهانئة التي يحلم بها في ربوع وطنه الصغير "الككُر":



مشتهيك انا يا وطن وليك راجع لا محالة
بعد ما حررت نفسك من قيودك في بسالة
بعد ما حررت نفسك من نواميس العمالة
نفسي ارجع وألفح الحرية شالا
وألبس التوب المطرز بالعدالة
واحضن القيم العشقتك من خلالا
ما عرفت اعيش بدونا وما قدرت اقولا لا لا



هكذا كانت المسيرة الشعرية لهذا الإنسان عبر مراحل عمره المختلفة تفيض حباً وعشقاً كل صباح وعشية لا يغيرها الزمن ولا الظروف ولم تشيب نفسه ولم تعرف نفسه غير الجمال والسماح ، الذين اعتكف في محرابيهما لا يبرحهما أبداً "يتجلبب" و"يتلفح" و"يتعمم" التسامح والتصافي والتصالح مع النفس والأحبة والآخرين مقراً صراحة بمراحل عمره المختلفة طامعاً في استمرار ما جُبلت عليه نفسه ، حيث ترى شاعرنا ماثلاً في نفس الشاعر العربي التي وصفها في الأبيات التالية ، يقول المتنبئ:


في الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أن ما في الوجه منه حراب
لها ظفر ان كل ظفرٍ أعده وناب إذا لم يبق في الفم ناب
يغير مني الدهر ما شاء غيرة وابلغ أقصى العمر وهي كعاب


فلم يتسرب إلى قلبه أبداً قول ذاك الذي قال: " يا بنت عشرين والأيام مقلبة ماذا تريدين من موعود خمسين " ، فها هو شاعرنا (رحمه الله) يقر بفارق العمر بينه وبين من يهوى ، ويبدو من خلال قصائده كأنه يتمنى دائماً أن يتوقف الزمن مردداً قول الشاعر العربي (ليت وهل ينفع شيئاً ليت ليت شباباً "بوع" فاشتريت) لينهك قلبه وجسمه مزيدٌ من الغرام ويخرج لنا آهاته ومكنونات روحه الجميلة وفنونه الخاصة في الغرام درراً يخلدها التاريخ ويلهج بها كل إنسان ، حيث لم يكن مثل المولهين والهائمين من أي جيل من أجيال العاشقين ، فالأبيات التالية تكشف مدى إدمانه للغرام وكيف أصبح الغرام مزمناً عنده وكيف هو يختلف عن جميع العاشقين وكيف يتأسف على سالف حياته:



ما حياتنا عليها من قبلك تأسفنا
ولو ما شفنا حسنك تاني شن شفنا
نظمنا القصايد فيك والَّفنا
دايم حبي ليك ومستحيل يفنا


وهذا نموذج يكشف ما اشرنا إليه بإجمال أعلاه:


أنا من مشاهير المحبين الحنان
ولمان عشقت عشقت من حور الجنان واسمح كمان
يا روحي بسالك الأمان دايرك حياتي تطمنا
اسمح السمحين تعال
اجمل الحلوين تعال
عشان تعرف مين انا
انا ما "جميل" العاش متيم كم سنه
ماني "الملوح" عاش مطوح قضى عمرو مع المنى
انا زول جديد
مجنون شديد
يعرف يريد إلا البريدا مكجنا


ونظم قائلاً عن نفسه:

عارفني ليهو أنا ماني نِد
ويمكن أكون ليهو جد


ويقول في موضعٍ آخر:

عمك أنا وجدك كمان
لكن مصيبتي على العلي
بهوى الجمال لكن ما فيش غير الهوى بين ايدي


ويقول في موضعٍ آخر:

بعد ما فتو بعشرين ليهو رجعت اتندم
ياريت لسه كت شباب ولسه العمر ما اتهدم



وكان كثيراً ما يستصحب في شعره و "نديهته" الأولياء والصاحين في كل دعاء يدعو فيه ربه آملاً في عودة محبوبه:


يابا أم بابالياس تجي الحين وجيب معاك كل الصالحين
تلحقوا الخفرو مسلحين ونحن بي لحظو مجرحين


ونظم في قصيدة أخرى قائلاً:

ود ابريش قريب يا يابا ابجبه
صلاَّح دنقلا البي قبه قبه
حالي البي عليكم ما بيغبى
كان ينفعلو زولن تاه وغبَّا




صور الشاعر حالته في الغربة وهي كحالة كل مغترب ومهاجر بأنها حالة من يجري وراء سراب بقيعة يحسبه ماء ، لاهثاً وراء المال من أجل راحة النفس ومن أجل قطعة ارض "في اكبر مشروع إنمائي مشروع السكن العشوائي" إلا أنه أخيراً لا يجني سوى الغياب والحرمان والعدم ، الحرمان من نفس الأهل والأحبة ، والغياب من كل فرح متوسداً جمر البين والعذاب:


قيتلو نصاح
امسيتو شداد
ماكن طيبين
يا ناس عن كل فرح غايبين
يا ناس تتوسد جمر البين
يا مغتربين
يا ناس ركبت قطر الأحلام
همت .. لمت .. كدر الأيام
حبت تستمع بالآلام
من قبلو دوام من بعدو دوام
قيتلو نصاح
امسيتو شداد
يا ناس هجرت وطن الأجداد
نزحت .. كدحت .. في درب الزاد
آمال تطول ارض الميعاد
في "الكرمتة" أو في حوض "أبو آدم"
أمتار عشرين
من مليون ميل
إن شاء الله تكون
في مجرى السيل
في اكبر مشروع إنمائي
مشروع السكن العشوائي



هكذا جاء به الزمان وهكذا ألجاه الشعر وهكذا أخذه في غفلة وحلف أن يأتي بمثله ولكن نقول له "حنثت يداك يا زمان فكفِّر" فكدَّر إحسانه لنا ولكن يبقي العزاء فيما خلفه من كل جميل:


صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شانه ما عنانا
وتولوا بغضة كلهم منه وإن سر بعضهم أحيانا
ربما تحسن الصنيع لياليه ولكن تكدِّر الاحسانا


خاتماً لهذا الخيط البسيط أورد هذه القصيدة (يغنيها عبد الرحيم البركل) لعلها تعزيني وتعزي الأستاذ الفنان صديق أحمد والدكتور أبوشوك وكل محبي هذا الإنسان الشاعر العظيم:


ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة)

ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
كَـتِّرْ وَحِيْحَكْ يا قَلِبْ
وينُو الزَّمَانْ يَعْزِفْ حَنَانْ ** الليلا(ة) غيْرْ وَدَاعْ رَاحْ مُحْتَجِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
ليه يا أخي رَاحِلْ دُونْ وَدَاعْ ** مَا قُتَّ مِنْ دُنْيَاكْ تِعِبْ
دَايِـرْنَا نِحْنَ نَعِيشْ وَرَاك ** كيْفْ بـ قِليْبَ(نْ) مِتْخَرِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
وَللا (والله) القَدَرْ جَبَرَكْ تَسِيبْ ** نَاسَ(نْ) ليها يَامَا كُتْ تَحِبْ
في الحَسْرَة والأسَى والهُمُومْ ** والعَبْرَة والدَّمْعْ الـْ بِكِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
غَشَّاشَا(ة) يَا دَارْ الزَّوَالْ ** كُلْ النَّعِيمْ الْـ فِيكْ كِضِبْ
كُلْمَا تَجُودِي النَّاسْ بِـ خير ** يَلْقُوُهُ شَـرِّكْ مُتْقَلِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
يَا دُنْـيَا ليه بِتْشِيلي شاعرنا** يَا دُنْيَا حَارْ جَرْحْ القَلِبْ
مَا هَسَّا هسع كَانْ بينَاتْنَا نُوُرْ ** وَاليومْ دِريبُوْ عَلَيْ صِعِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
مَا بْـ يَرْحَمْ المُوتْ يَا أخِي زولْ ** دَايْمَ(نْ) مَسَلَّطْ للْسَّلِبْ
أتَّامْ عِيَالْ ، خَرَّابْ دِيَارْ ** بَكَّايْ عِيُوُنَ(نْ) تِنْتَحِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
هُوَ القَدَرْ ، هُوَ الأَجَلْ ** هُوَ المُسَطَّرْ مُتْكَتِبْ
رَغْمْ العُلُوُمْ اتْقَدَّمَتْ ** يَا موتْ دَوَاكْ مَا عِرْفُوْ طِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
أنا جَانِي الخَبَرْ في يومْ رَهِيْبْ ** فِي نَفْسِي شُفْتُوْ كِضِبْ كِضِبْ
يَا (أ)خِي مَا شُفْتَ العَلَيْ ** لمـَّانْ عِرِفْتَكْ إِنْتَ غِـبْ
الكونْ دَا شُفْتُو عَكِسْ بَعَضْ ** حَتَّىْ الشَّمِسْ طَلَعَتْ غَرِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
جِيْتْ للدِّيَارْ مَا فِيَّا بَالْ ** البَالْ وَرَاكْ مُنْشَطِبْ
جِيْتْ للدِّيَارْ وطَعَمْ الفُرَاقْ ** في حَلْقِي مُرْ مُرَّنْ كِعِبْ
جِيْتْ للدِّيَارْ أبْكِيْكَ ** وْدَمْعْ العينْ يَسِيْلْ يَسْكِبْ سَكِبْ
يَا (أ)خُوْيا وَااا أسَفِي الشَّدِيدْ ** مَا جِيْتَ قُبَّالْ تِنْـتَرِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
إنْتَ رَوَّحْتَ مَا خلْيْتْ غيْرْ ** ذِكْرَىْ المُحِبينْ للْمُحِبْ
ذِكْرَاكْ مَقَدَّسَا (ة) في قِلْيبَ(نْ) ** أَرْضَعْتُوُ حِنِّيْةَ القَلِبْ
ذِكْرَاكْ رَسَمْتَهَا في الخَيَالْ ** بيْنْ النِّجُوُمْ في ليْلْ ضِهِبْ
ذِكْرَاكْ دَايْمَ(نْ) في صُحَايْ ** وْعَليْهَا مِنْ النّومْ أَشِبْ
ابِْكِنْ يا عِيوُن الليْلا(ة) ** ابِْكِنْ يا عِيـُووون
إلاهِي أخُوْيْ عِنْدَكْ غَرِيْبْ ** اَغْفِرْلُوْ كُلْ زَلَّة(ا) وْذَنِبْ
وَاْرْسِلْ سِحَابْ الرَّحْمَا(ة) يوتْ ** فوْقْ قَبْرُو يتْزَاحَمْ يَكِبْ
وآنْسُوْ بـ حُوُرَ(نْ) حِسَانْ ** لا بـ تِتْوَصِفْ لابـ تِتْحَسِبْ
واَقْبَلْ دُعَايْ قُولَيَّا ** أخُوُكْ فِي الجَّنَّا(ة) لا شِقَا لا تِعِبْ



ألا رحم الله الشاعر عبد الله رحمة واسعة وانزل عليه شآبيب رحمته بقدر حروف بنات شفاه
واللهم ألهم آله وإيانا الصبر والسلوان
اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلا خيراً من أهله وادخله الجنة وقِه عذاب القبر وعذاب النار .
نورالهادى
نورالهادى
V.i.P
V.i.P

احترام قوانين المنتدى : 100

عدد المساهمات : 4904
نقاط : 40038
تاريخ التسجيل : 11/05/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

لمسة وفاء للشاعر الراحل  عبدالله محمد خير ( ودعبدون ) Empty رد: لمسة وفاء للشاعر الراحل عبدالله محمد خير ( ودعبدون )

مُساهمة من طرف نورالهادى الإثنين 23 سبتمبر 2013, 4:09 am

هل كان النيل هاجساً في شعر عبد الله؟

لا جدال أن الشاعر عبد الله ابن بيئته، لأن البيئة كانت تمثل بُعداً مكتسباً في حياته العامرة بالعطاء، وتعكس ضرباً من التواصل الأريحي الذي كان قائماً بينه وبين تلك البيئة في نسق سداه التأثير ولحمته التأثر. فلذا نلحظ أن أدبينا الأستاذ الطيب صالح، متعه الله بالصحة والعافية، قد جعل من النيل بُعداً محورياً في حياة شخصياته الروائية الدائرية التي نسج حولها قصصاً محلية النشأة وعالمية الصنعة، وقد كانت هذه الثنائية مرتبطة بقدرة النيل الخارقة على تجاوز قيد المكان الثابت جغرافياً، والمتغير دوماً بتغير جماليات الحياة القائمة على ضفتيه. كان عبد الله مسكوناً بمخرجات ذلك الواقع الجمالي، وما تحمله معها من قيم تراثية بديعة النشأة، وكانت تمثل تلك الجماليات الخلفية التي انطلق منها شيخ العاشقين، واستمد منها وحي أشعاره الملهمة، وشأنه في ذلك شأن أبناء جيله الذين تقاسموا معه ذلك الشعور وذلك التأثر، ونذكر منهم الشاعر خضر محمود، وحسن الدابي، والسر عثمان الطيب، وإبراهيم ابن عوف. وقد جسد لنا الشاعر عبد الله طرفاً من محورية النيل في كثيرٍ من أشعاره، وتحديداً في قصيدة الجروف:



الجزيري بقت مخادة
وتانى ختت طين زياده
السواقي البى الغرب طلعت قصادا
وفى الضهاري الرمله الناس زرعت مقادا
الجرف سبروقو ملَّح
والبحر فات منو روَّح
قام لبس التوب وسرَّح
من بعيد بى إيدو لوَّح
قالوا مندلِّين يشوفوا
كل زول ينـزل جروفو
الجرف بالخصبه رجَّح
وللبذور الطيبة نَّجح
فى الأصيل قمريهو يصدح
لى نعيمو وخيرو يمدح
داك يسلك وداك ينقح
وداك بالشرقية ينبح
جاى دافر القش متمسح
مرة يغطس ومره يطفح
التبش نوارو فتَّح
والدخن قندولو دندح
خدَّر الشتل المصفَّح
جاب قلوب لى اهلو فرَّح



هكذا كان النيل في مخيلة عبد الله، يهدم طرفاً من أراضي أهله الحسيناب في الكَكُر والجابرية في موسم الدميري، ويعوضهم ما أخذه هدماً في شكل جزر قابعة في وسطته المنحسر، وجروف ممتدة على ضفتيه التي طرَّزتها سلاليك ترابلتهم الفحولة، وحولتها إلى خضرة زاهية، وبساتين مزهرة بنوار التِّبش وقناديل الدخن، وحدائق نغم شجي تتخللها تغاريد القماري في صباحاتها البواكر، وصيحات الترابلة عند المغيب، وهم ركوباً على ظهر النيل الخالد وعلى "تماسيح" قش نظموها لأغناهم في مرحاتها. هكذا ذهبوا من قراهم خماصاً وأعادوا إليها بطاناً، لما يحملونه معهم من ذكريات طيبة، وزاد تصنعهم مساويط أمهاتهم الحانيات، وأنامل حسانهم العذارى اللائي وصفهن الشاعر حسن الدابي في مقطع من مقاطع رده على عرضحال الجلا (ود الدابي مالك ساكت** ماشفت الجلا السواها) وما خلفه من إشكالات عاطفية لشيخ العاشقين:


بناتنا حليل سروحن في السبيقه ... وصيبط أم الرأس مبقع والكُريقه
أيدهن حلوة غير لبس أم دقيقه ... وبدون كترة غويش نفسن طليقه
يا حلاة قتانٍ الفوق السليقه ... ودا اللقيمتو تطمِّن الماسكاوه ريقه


لكن للأسف كل هذه المصطلحات التي يرويها لنا الشاعر حول النيل وجزره المعطاة أضحت في ذمة التراث وحافظة جيل المبدعين، لأن مفردات قاموس الحداثة حلت محلها تدريجياً، وجعلت بعضها أثراً بعد عين. فمحورية النيل التي يبرزها لنا الشاعر عبد الله لا تعني الكثير بالنسبة لأبنائنا الذين يعيشون في حواضر الاغتراب، لأنهم في حالة اغتراب مع الذات، فمجتمعاتهم المضيفة تعدهم وافدون لا يمثلون جزءً من نسيجها المحلي، وأهلهم في نواحي السافل يعتبرونهم امتداداً طبيعياً لهم، ولكنه امتداد لا طعم له، ولا رائحة، ولا لون. نسأل الله أن يعيد غربتنا مادياً ومعنوياً، لأننا قوم لا يألف الشتات. وشيخ العاشقين قد عاش بيننا بهذا المفهوم الذي جعل ارتباطه بالحسيناب وبزينوبة الأم وزينوبة الأبنة ارتباطاً سرمدياً إلى وافاه الأجل المحتوم في الخامس عشر من أكتوبر 2008م، وهو لا يدري بأنه سيموت خارج أرض الوطن، ويُدفن في مقابر أحمد شرفي بأم درمان بعيداً عن النيل الذي ألفه عند سواقي الحسيناب.
ما أروعك أيها الشاعر عبد الله عندما تجعل "الجزيري" وجمالياتها خلفيةً للوحة تراثية، تلونها بذوقك الراقي، وترسم عليها منشطاً راقصاً من مناشط أهل الريف. وما أبدع تلك المناشط عندما توثق لحفل عُرس، تشع في وسطه أنوار الرتاين، وتعطر سماءه زغاريد الحسان وأنغام الطنبور ونفثات الدليب، وتصول وتجول في وسط دائرة الحاضرين إحدى الحرائر، وتعلو هنا وهناك صيحات أهل العريس "أبشر يا عريس بيتك مبارك". ويصدق في هذا المشهد قول الشاعر:


تراني حلفت بى الله
وتاني بقول وحات الله
وكت السمحة فى هيباته تتجلى
تشيل خطوات فى ايقاع
حلات ايديها في التله
تودي صديرا قداما
تخلي سبيبا يندلى
تخلي الداره فوق نيرانا تتغلى



محورية العشق في قاموس شيخ العاشقين
عاش الشاعر عبد الله في مجتمع يصنِّف البوح بحب العذارى نوعاً من الكفر الصُراح الذي لا دخنة فيه، لأنه يُلقي باللائمة على الحبيب الذي يمثل طرفه الموجب، ويسبب حرجاً للمحبوبة التي تمثل طرفه السالب، علماً بأن إله الحب في ذلك المجتمع الريفي يُعدُّ إلهاً ناشزاً، لأنه ربما يقود طرفي المعادلة القائم عليها إلى ما لا يحمد عقباه. فسداً للذائع حاول أهلنا الطيبون عند نواحي السافل أن يُوصدوا أبوابهم في وجهة كل طارق، لأن الحديث عن العشق و"الريدة" من المحرمات في قاموس تداولهم الاجتماعي. ولكن شيخ العاشقين كان شاعراً متمرداً على هذه التقاليد، فمعظم أشعاره كانت منسوجة في لوحات جمالية، مذوَّقة بصور العشق، والحب، والشجن، وعبارات اللوم لذلك المجتمع، التي يجسدها قوله: "ليه يضايقونا الناس كده *** والغرام سُنَّه مؤكده"، ويؤكد ذلك الموقف في مقطع آخر في احدي قصائده، حيث يقول: " ما بصح يا الحاج أب شنب *** ولسه ديل ما بقو للأدب *** في المعاملة ما تكون صعب *** أنت ما تقسى على العنب". ومن أجمل روائعه التي تعكس هذه المواقف، قصيدته المشهورة بـ "دروب الريدة".


ريدكم لي شديـد يـا يابـا ريـدي أنـا للبريـدو شديـد
إلا أنـا مـا معاكـم ديـمـه لـكـن عــن حبيـبـي بعـيـد
خلونـي اللسافـر أبـوي لـو كـان فـي إجـازة العـيـد
أمشي أزور حبيبي الغالي دايـر أوفـي حـق الريـد
عشان يا يابا من يوم روح ما جاب لي منـو بريـد
وما قال لي وين يا زولي كيف عامل بـراك وحيـد
ليشـن يابـا مـا بترضونـي يانـي وليـدكـم الويحـيـد
خـايـف بـكــره مـــا تلـقـونـي إلا تتلـتـولـي الـقـيـد
شان شوق الحبيب مالكني والنار في ضلوعي تقيد
دايـر يابـا أمشـي وأزورو يمكـن شوفتـو لـي تفـيـد
يابـا عليـك عطفـك لـي مـا تخلـونـي أبـكـي شـديـد
ويابا إن كت تدري البي ماب تأبى لي أبقى سعيد
يابـا إن كُـت قـادر أخلـي كُـت خليتـو بـدري أكيـد
زولاً حبو عاش في قلبي كيفـن عـن طريقـو أحيـد
كـان يـا يابـا مـا جـربـت تهـواهـا الحـسـان الغـيـد
وكـان يـا يابـا مـا أشجـاك صـوت البلـبـل الغـريـد
وكان يا يابا ما ساهـرت وعينيـك ضاقـن التسهيـد
مـا بتهتـم بـي أعـذاري مهمـا أقـول ومهـمـا أعـيـد




تعكس هذه القصيدة طرفاً من الصراع الذي كان دائراً في ذلك المجتمع حول قضية الحب التي يعدها الشاعر سنة مؤكدة، ويعتبرها والده محمد خير ضرباً في ضروب الوفاء العابث، لأن عقد قرانه بزينوبة لم يكن مؤسساً على مثل هذه القيم الرومانسية في بداية عهده، بل كان قراناً يقوم على موازنات محلية تواضعت قرية الحسنياب عليها، وأن الشاب عبد الله يجب أن لا يكون نشازاً في ذلك الواقع. وبالرغم من هذا الواقع المرير إلا أن الشاعر عبد الله كان عذرياً في عشقه، ومتطلعاً لمستقبل يرضي طموحات الوالدين، دون أن يعكِّروا صفو علاقاته العاطفية وسنة الله المؤكدة في خلقه، ويتجلى ذلك في خطابه الاعتذاري الذي عنونه إلى والده ممثلاً رمزية ذلك الواقع، بقوله:



دحين يا يابا ماك مشتاق وحيدك يبقى عنـدو وليـد
يحوم في البيت ويلعب فيهو يمرح في براءة سعيد
يقـول لـي يمـه يـا حبوبـه يـا حبوبـه عنـدي نشـيـد
يسعدنـي ويسـر بـال أمـه ليـك يـا يابـا يبقـى حفيـد
هـاك يـا يابـا مـن أشعـاري أبيـات أنهكـا التـرديـد
كم تاه في دروب الريده قلبي وكـم نظـملو قصيـد



وبالرغم من هذا الرجاء الممزوج بالحزن لم يضع الشاعر عصا ترحال الحب عن العاتق، بل ظل هائماً في بيداء عشقه المفقود دون أن يكل أو يمل، لكنه آثر توثيق حيثيات هذه المسيرة العاطفية غير الموفقة في جملة من قصائده الحسان، وأشهرها تلك المجموعة المعروفة بالرسائل، والتي تبدأ بالقصيدة التالية:



عاد يا قلبي كيف تعمل
ماضيك اللكان أجمـل
سعادتك فيهو ماش تكمل
ودقاتك بتتعطل
تقبل والله ما تقبل
مجبور ترضى باللحصل
تخطيطك تراهو فشل
وما دليت دلوك نشل
كفاك زمن شربت عسل
هاك اتجرع الحنضل
ظنيتك كبرت عقل
وفوق نيرانو تتململ
أخيرلك صلى واتنفل
أوعك تاني تتطفل
ماضيك بالأماني حفل
أفراح في لعوب وحفل
غاب نجم السعود وأفل
جديا كان ولوف وجفل
فـي دنـيـاك مافي عــدل
شقـاوتـك ما بي تتبدل
بي فوقك جا ماشي قدل
ديسو اللي كتيفو هدل
يميل ويميل ويستعدل
وعينيهو الملاني جــدل
تقبل والله ما تقبل
مجبور ترضى باللحص
ل




ولم يقف سيد العاشقين الجريح عند هذا الحد، بل كتب رسالة ثانية إلى صديقه الشاعر حسن الدابي، ليشاركه في عظم المصيبة، ويخفف عنه غلواء حداده المكلوم في مجتمع لا يقدِّر قيمة المشاعر العاطفية، ولكنه يؤثر تفضيل الحضر على الريف، وتمييز "السكاكي" على ود البلد، كما شرحنا ذلك في مقام آخر، حيث استأنسنا بمفردات قصيدة بت البلد التي نظم حباتها الشاعر الألمعي الأستاذ السر عثمان الطيب.



ود الدابى مالك ساكت ما شفت الجلا السواها


شال محبوبتي سافر بيها كيفن عاد بعيش لولاها
بابور البحر مو عارفي شايلي اعز زول جواها
ماهماها حالي البي ما دام نوَّره وضواها
تشتكي بالعلي عيوني أهمله ما سمع شكواها
اللحكيلك ألماك عارفو كيف مسخت بلدنا ورآها
كان كاتمه الشجن في وداعه ال دموعه مو ساتراها
وأيه فايدة حياتي البعده آخوي أتقلب مجراها
تقصر او تطول أيامى دي إنا لأمن أموت بطراها
من يومة رحيله السمحه خلت في العيون ذكراها
خلت في القليب بصماته أحرف كل يوم بقراها
***
ما بتحمل حبيبتى الغربه لا لا وحاته مو قادراها
وكيف حاله إن مشت في بلدا حاره وناسا مو شاكراها
كان فات المحطات جمله يا حسن (لابد) القرير بقشاها
قوم يوم التلاتاء أندله بى تالا الرصيف تلقاها
ما تعاين كتير وتشبه ديك إياها ديك مو ياها
باينه حبيبتي من بسماتا والنور يضوي من محياها
***
يا حسن أنت فوق أوصافه جيب أبيات وقول معناها
واوعك ترتبك فى وداعه ذي ما نحن ودعناها
واكتب لي جواب طمني لا يبقى السفر أعياها
ما بتقدر عليها الدرجه إلا غلب عليها حياها
هاك مني الرسالة التالته وعينى بالدموع راوياها
تلقاك حافظي للبيناتنا وتبقى العشره مو نا سياها
إن كنت ما بخاف عزالى آزول كت بقوم ابرأها
لكين بخشى قنا وقالو وحالي السمحه عارفه براها



ويبدو أن جودية حسن الدابي لم تفلح في حل تلك المعضلة المزمنة، بالرغم من أنها حاولت أن تخفف غلواء الشاعر العاطفي، وتشعره بأنه لم يكن الضحية الوحيدة، لأن ذلك الواقع كان واقع كل العاشقين المتمردين في نواحي السافل، وتتبلور مشاطرة الدابي في قوله: "يا عبدو أخوي قولك حقيقة وكتير الطفَّشه الجلا من فريقها". إلا أن هذه المشاطرة لم تكن مقنعة في عُرف شيخ العاشقين الذي سطر رسالته الأخيرة وأشهد الزمان فيها على مأساته العاطفية، وظلمه الرومانسي غير المبرر.


يا زمان بالله اشهد
ديمه بطراك ومستحيل انساك والخبر المؤكد
إني شايل ليلي بى ذكراك منكد
ما فى يوم ما ببكي لا من ليلي هوَّد
وكيف تعيش ألم العلى الآلام تعوَّد
يا زمان بالله اشهد
أصلو ياهو نصيبى اسهر وجفنى من ألامو يسهد
وابني لي ماضينا فوق واحاتوا معبد
وأنت فى عشك سعيد هاني وممجد
ما بهمك طرفي عمره يعيش مهجد
يا زمان بالله اشهد
يبقي عشكم انتو جنه طيروا غنا وروضو فرهد
فيهو تتهنوا وتنالوا سعادة أزيد
يا زمان بالله اشهد
قلبي من فارق حنانك كم تأوه وكم تنهد
من دريبك شال خطاه عساه يبقي سعيد ويخمد
كم كتمت الشوق وكت جواي عربد
واختنق في قلبي زي الغيم وأرعد
يا زمان بالله اشهد
الوداع مجبور عليهو وليهو ردَّدا
الوداع زولي الرزين يا ناير الخد
الوداع يا أغلى زول يا احلى مشهد
الوداع وخلينى لي سهري البلا حد
الوداع ومناي ليك إن شاء الله تسعد
يا زمان بالله اشهد

شيخ العاشقين ومعاناة الاغتراب



بدأت ظاهرة الاغتراب في السودان في مطلع الخمسينيات كظاهرة نخبوية قاصرة على إعارة بعض الكوادر المهنية المدربة للعمل في بعض بلدان العالم العربي، لكنها سرعان ما تحولت إلى ظاهرة جمعية شملت كل قطاعات المجتمع السوداني، وكل الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، أو أؤلئك الذين شرَّدهم سلاح الصالح العام أو ظلومات الكيد السياسي. وبذلك فقد السودان شريحة مهمة من هيكل بنائه الوظيفي، وبمرور الزمن أنعكس ذلك سالباً على عطاء الدولة المؤسسي وعلى طبائع المجتمع وأخلاقيات البيئة المحلية في السودان. كان الشاعر عبد الله من الرافضين للهجرة، لأنه كان مسكوناً بحب الريف وقيمه الجمالية، ومقتنعاً بكسبه المتواضع بين حلة الحسيناب ومدينة الدبة المركز، ومدركاً أن الغربة ستسلبه كل القيم التي أحبها وجاهد من أجلها، ويتبلور ذلك في إجابته عن سؤال طرحه على نفسه في صيغة مساجلة مع الطرف الآخر: "ماك مسافر يا ولد؟ أسافر وين أقع يالسمحة مكتوب لي القعاد طول الأبد."
لكن يبدو أن أبد عبد الله لم يكن أبداً سرمداً، فقد فرضت عليه عوادي الأيام اغتراباً دون رغبته (مو زول غربه لكن الظروف جابراه)، اغتراباً حرمه من رؤية زينوبة الابنة المسمى على زينوبة الأم، اغتراباً جعله مشغولاً بجمع "قروش الجن دي أريتو يا وطني بعيد عن أرضك ما تتلمى"، اغتراباً فرض عليه إسراً سكونياً يفتقر لكل جماليات النيل التي عشقها الشاعر عند حلة الحسيناب. فشدَّه ذلك الواقع المرير إلى مخاطبة "القمره" في عليائها، سائلاً عن أحوال أؤلئك النفر الطيب عند نواحي السافل، وجاءت صيغة خطابه على النسق التالي:-




يا قمره ... صُبي السنسني الحمره
شوفي أبوي أنا الراجاهو كلو صباح
***
يا زينوبه أبوكي هو أصلو حالو بره
لو قاري العلم هو ولاهو سيد خبره
ومو زول غربه لكن الظروف جابره
مالو إن كان صبر كل الخلوق صابره
والصابرات روابح لو يجن قماح
***
هو أصلو متين نساكم يُمة شان يطره
بيتنفس هوا ذكراكم العطره
رهيف إحساس حنين قلبو بالفطره
نديمو بقت دموعو الديمه منقطره
وأصلو إن ما قعد بينكم ولا بيرتاح
***
جاهو العيد كمان زاد القليب حسره
سادي العبره حلقو ونفسو منكسره
هو لا لمّ القروش لا حصل المسره
بلد ما فيها زول مات من عدم كِسره
فراقكم ليها يا أحباب ولا كان صاح
***
يا أمارتي الما طاعت الأمره
ندماني وبقت محتاره في أمره
بعد قسن الدرادر قصرن عمره
الشوق فاض وعماها الحنين غمره
الشوق للبلد لي بهجتا وسمره
الشوق لي مقيلاً ضما ضل تمره
الشوق لي حديثاً ضما ضو قمره
كان الشوق يخفف والله يبرى جراح
***
مشتاق للبلد جابريتا وكَكُرا
مشتاق للحسيناب أسقه وبِكِرا
مشتاق للقبيل إتربوا فوق حِكرا
مشتاق للدميري ومويتا العكره
مشتاق للجزيري وتُشقا وهكرا
مشتاق لي قطع بحرا ودخول وَكَرا
مشتاق للأبى يفارق الفؤاد ذِكِرا
مشتاق للعلي مشغول دوام فِكِرا
مشتاق للصِّبح ديدن غناي شُكُرأ
وياريت كُت بقدر أسوي شوقي جناح





سمعتُ هذه القصيدة لأول مرة في الصيف الماضي عندما أنشدها الفنان المبدع صديق أحمد التاجر في حضرة نفر كريم بعاصمة الضباب لندن، فصوت صديق كان له طعم ومذاق خاص، وكلمات عبد الله كان لها وقع مؤثر في نفس السامر الذي يشاركه مرارة الاغتراب، ولواعج الحنين إلى ذلك الوطن الصغير القابع عند منحنى بخيره وشره. بحق كانت جلسة استماع ومؤانسة طيبة. وبعدها أتيحت لي الفرصة أن أجلس سوياً مع الأخ صديق أحمد، وأتبادل معه أطراف الحديث عن ذكريات مضت. وكان صديق بين الفنية والأخرى يسألني عن أخبار الدكتور سليم أحمد في أيرلندا، والدكتور محمد أحمد سيدأحمد التوم في مدينة بورت ماوس، والدكتور محمد بادي في العين (الإمارات)، والدكتور توفيق الطيب في الرياض، والدكتور ياسين محمد ياسين في كاليفورنيا. ثم أخيراً أشعرني بأنه في حالة استعجال لمغادرة بريطانيا، لأنه يود زيارة الشاعر عبد الله محمد خير الذي كان طريح الفراش بقاهرة المعز. فاهتمام صديق بعبد الله أمر طبيعي، لأن العلاقة بينهما كانت علاقة تكاملية، فلولا الفنان المبدع صديق أحمد لما عرف الناس أشعار عبد الله، ولولا أشعار عبد الله لما سمت قيمة الفن الذي قدمه الفنان صديق أحمد لمستمعيه. رحم الله الشاعر عبد الله رحمة واسعة بقدر ما قدم، وأحسن الله عزاء الأخ الفنان صديق أحمد وعزاء كل المعجبين بفنه الممزوج بدرر شيخ العاشقين ولوحاته الجمالية.
نورالهادى
نورالهادى
V.i.P
V.i.P

احترام قوانين المنتدى : 100

عدد المساهمات : 4904
نقاط : 40038
تاريخ التسجيل : 11/05/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى